كيف تدير مصر الوساطة بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟
شادي محسن
أرسل بريدا إلكترونياأغسطس 9, 2022
4 دقائق
يختلف مفهوم “الوساطة” عن مفهوم “المساعي الحميدة” في العلاقات الدولية؛ من حيث أن الوسيط يستطيع عادة أن يأخذ زمام المبادرة في اقتراح شروط التسوية أثناء ممارسته تخفيض حدة الصراع. وترى الأطراف المتصارعة في الوسيط أنه القادر على أخذ إجراءات التيسير مثل: وضع جدول زمني، وتبسيط الاتصال، وتوضيح المواقف المعنية، ومسألة “إعادة صياغة المفاهيم”، وتسهيل المساومة، ودعم الاتفاق. ولا تقبل الأطراف المتصارعة دخول وسيط محدد كطرف ثالث في الصراع إلا في حالة اقتناعهم بالخدمات التي يستطيع أن يوفرها ذلك الوسيط. لذلك يستقر البحث على إجابة السؤال، لماذا مصر؟ وكيف تدير مصر بنجاح عملية الوساطة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي؟
مصالح متشابكة
أدركت مصر أن ارتباط دورها التاريخي بالأوضاع السياسية والأمنية التي ترافق الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يجب أن يكون لصيقًا بمصالح استراتيجية متشابكة مع الطرفين. يقوم هذا الارتباط المصيري بين مصر والقضية الفلسطينية عبر التالي:
أولًا: المصالح المصرية-الإسرائيلية
نجحت مصر في عقد علاقات جيدة مع الحكومة الإسرائيلية في عدة ملفات حيوية على رأسها ملف الطاقة؛ إذ تنامى لدى الحكومة الإسرائيلية إدراك شبه كامل أنها غير قادرة على أن تجد بديلًا آخر عن مصر من أجل توريد غازها الطبيعي إلى الأسواق الأوروبية.
ورتبت مصر لهذا التشبيك في المصالح في إطار مؤسسي إقليمي جامع يضم إسرائيل ودولًا عربية وأوروبية أخرى جنبا إلى جنب مع السلطة الفلسطينية صاحبة الشرعية الوحيدة على المقدرات الفلسطينية الوطنية. ويدخل ملف الطاقة كمتغير جديد في حسابات القاهرة السياسية التي تشكل لها معادلة جيوسياسية جديدة في الإقليم، فبات لمصر ورقة تضعها على وزنها الإقليمي المتطور، خاصة بعد الحرب الروسية في أوكرانيا.
ثانيًا: إعادة إعمار غزة
أما على الجانب الفلسطيني، فنجحت مصر في تشبيك مصالح استراتيجية جديدة مع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة تجعلها تحتاج إلى استقرار أمني طويل الأمد؛ من أجل رفع القدرة المعيشية للقطاع الذي يضم ما يقرب من 2 مليون مواطن فلسطيني. لا سيما وأن حركة حماس أصبحت هي المبادرة بالسؤال حول تسريع وتيرة البناء المصري في القطاع؛ للتعجل في رؤية ثمار المبادرة المصرية بإعادة الإعمار.
ثالثًا: المصالحة الفلسطينية
تتمهل مصر في تنظيم موضوعي للجدول الزمني لمشروع إعادة الإعمار؛ كونها ربطت تسريع البناء بتسريع الإنجاز في ملف المصالحة الفلسطينية-الفلسطينية بين كافة الفصائل الفلسطينية؛ منعًا من محاولة احتكار فصيل فلسطيني واحد لثمار مشروع إعادة الإعمار. ومنح هذا الملف لمصر طابعًا نزيهًا لصفتها كوسيط في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لا سيما وأن مصر لم تتوقف عن دعوة الفصائل باستمرار للحضور في القاهرة والوصول إلى صيغة توافقية.
المتغيرات الجديدة في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
تغيرت طبيعة الدور المصري في القضية الفلسطينية بعد 2014؛ إذ كانت تتوالى تطورات وأحداث معينة في الماضي لم تكن تلتفت لها مصر سابقًا مثلما أصبح عليه الحال الآن. ويعود ذلك إلى إدخال مصر متغيرات محددة على حساباتها لمسارات الصراع يمكن أن تؤثر في خفضه أو زيادة حدته، يمكن توضيح هذه المتغيرات فيما يلي:
أولًا: القدس
باتت مدينة القدس (القدس الشرقية: عاصمة الدولة الفلسطينية المستقبلية) ورقة حاسمة في حسابات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. كان يدور الحديث عن القدس قديمًا في إطار سياسات التهويد مثل بناء مستوطنات جديدة في ضواحي القدس الشرقية أي على بعد عشرات الكيلومترات عن مدينة القدس الشرقية نفسها. أما الآن فتستدعي مصر سفيرة إسرائيل “أميرة أورون” بسبب مسيرات المستوطنين أو القوميين الإسرائيليين في القدس الشرقية؛ يعود ذلك إلى علم مصر أن مسيرات الأعلام وحدها تستطيع أن ترسم طابعًا جديدًا للصراع يمكن أن يزيد من حدته.
ثانيًا: الأسرى
يشن الجيش الإسرائيلي حملات عسكرية عديدة داخل الضفة الغربية وداخل حدود صلاحيات السلطة الفلسطينية بحق فصائل فلسطينية محددة؛ بهدف القبض على عناصر حركية، وبالتالي تستطيع إسرائيل المساومة بهم كأسرى أو تحييد خطرهم الحركي. تدرك مصر أن ذلك التطور بات متغيرًا مهمًا في حسابات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما يستدل عليه مؤخرًا بعد القبض على بسام السعدي المحسوب على الجهاد الإسلامي واندلاع التصعيد الإسرائيلي الأخير في غزة.
ثالثًا: الانتخابات الفلسطينية الوطنية
تدرك مصر أن عقد انتخابات فلسطينية وطنية يضمن لجميع الفلسطينيين استقرارًا سياسيًا وأمنيًا بعيد الأمد، يعيد للشعب الفلسطيني الأمل في إقامة دولة ديمقراطية مستقرة تشمل الجميع دون إقصاء، ويرسخ كذلك المصالحة الفلسطينية بين جميع الفصائل.
ماذا يعني الهدوء الأمني في غزة؟
تحرص مصر على تحييد أي تصعيد عسكري بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة؛ لعدة عوامل وهي:
1 – تحييد الانقسام الفلسطيني: أحد الدوافع الإسرائيلية في شن عمليات عسكرية في غزة هو تكريس الانقسام بين قطاع غزة والضفة الغربية. ينعكس ذلك في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي الذي بدأ في الترويج لانقسام محتمل بين الجهاد الإسلامي وحماس من ناحية، وبين حماس وحركة فتح من ناحية أخرى. يؤدي الانقسام الفلسطيني (أحد مستهدفات إسرائيل) إلى شق الصف الفلسطيني وإفشال محاولات المصالحة، أو نجاح انتخابات وطنية، أو تقليل فرص إقامة مؤسسات فلسطينية وطنية تعمل على استقرار الدولة الفلسطينية مستقبلًا.
2 – قطاع قابل للحياة: بادرت مصر بمشروع إعادة إعمار غزة؛ بهدف رفع القدرة المعيشية في القطاع وتحويله إلى منطقة قابلة للحياة للفلسطينيين القاطنين فيه. بينما يستهدف التصعيد الإسرائيلي البنية التحتية الخدمية والاقتصادية في القطاع مثل ممرات تجارية، أو طرق نقل الركاب. لذلك ركزت المرحلة الأولى من إعمار غزة على إنشاء الطرق والكباري لتعظيم الفرص الاقتصادية والخدمية.
3 – استئناف المفاوضات: ترى مصر أن التصعيد العسكري في غزة يعرقل الصيغ التواقفية الفلسطينية المحتملة بين الفصائل والعمل على استئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. وهو ما حمله الرئيس عبد الفتاح السيسي في حديثه مع رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لابيد؛ إذ قال إن على إسرائيل تخفيض تصعيدها العسكري للمساهمة في استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين.
4 – استقرار أمن الإقليم: أحد دوافع إسرائيل في عدم شن عملية عسكرية ضد حزب الله في لبنان وتفضيل العمل الدبلوماسي لإنجاح مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع لبنان هو أن الحرب تقلل فرص الاستثمار الأجنبي في قطاع الطاقة. ينصرف الأمر ذاته في غزة؛ إذ ترى مصر أهمية الاستقرار الإقليمي لاستجلاب الاستثمار في حقول الغاز الفلسطينية قبل شواطئ غزة، وتمكين الفلسطينيين اقتصاديًا لترسيخ دولتهم المستقبلية.
ختامًا، يمكن القول إن مفهوم الوساطة في مصر هو مفهوم مركّب، يشمل فلسفة خاصة تقرأ حسابات العلاقات الدولية والمصالح المتشابكة، وتستقرأ المتغيرات الجديدة التي تدخل في حسابات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتضم مجموعة واسعة من المؤسسات ذات العمل المتناسق لضمان نجاح الدور المصري.