مع استمرار دبلوماسية الهجوم الإثيوبية.. ما هو مستقبل أزمة سد النهضة؟
أرسل بريدا إلكترونيايونيو 26, 2022
5 دقائق
مشاركة عبر البريد
يبدو أن الظروف السياسية والاقتصادية والأمنية المتدهورة التي تعاني منها إثيوبيا بسبب تبعات الصراع الداخلي بين حكومة آبي أحمد وقادة جبهة تحرير تيجراي منذ نوفمبر 2020 من جانب، وما فرضته الحرب الروسية الأوكرانية من آثار سلبية على الأمن الغذائي لمنطقة القرن الإفريقي بالكامل من جانب آخر؛ لم تكن كافية لوقف تصريحات السياسيين الإثيوبيين الموسمية حول سد النهضة، وإظهار العداء لكل موقف إقليمي أو دولي يدعم حق مصر والسودان في مياه النيل.
فعلى الرغم من طرح القضية مرتين أمام مجلس الأمن الدولي بعد إصرار إثيوبيا على الملء الأحادي وعدم مشاركة المعلومات مع مصر والسودان، ودفع المجتمع الدولي الأطراف الثلاثة نحو التوصل إلى اتفاق ملزم حول ملء وتشغيل السد، إلا إن مدير السد “كيفلي هورو” أعلن استمرار عملية تعلية جسم السد والشروع في الملء الثالث خلال شهري أغسطس وسبتمبر المقبلين دون الالتفات إلى المخاوف المصرية السودانية.
الوضع الراهن
وفقًا لتصريحات المسؤولين الإثيوبيين، فإن نسب الإنجاز في بناء السد بلغت 82%، ونجحت إثيوبيا في توليد الكهرباء من السد باستخدام أول توربين تم تركيبه أواخر فبراير الماضي، إلا أن توليد الكهرباء المرتبط بكمية المياه المخزنة خلف جسم السد غير ثابت بسبب ضعف هذه الكمية البالغة 8 مليار متر مكعب تم تخزينها على مدار عامين بعد الوصول بارتفاع السد إلى 573 مترًا فوق مستوى سطح البحر.
وتستهدف إثيوبيا الوصول بالارتفاع إلى مستوى 595 مترًا فوق مستوى سطح البحر لتتمكن من تخزين 10 مليار متر مكعب إضافية من المياه خلال فترة فيضان هذا العام، ليصل التخزين الإجمالي إلى 18 مليار متر مكعب من المياه، الأمر الذي يعد صعبًا لعدة أسباب، منها: ضيق الوقت أمام السلطات الإثيوبية لاقتراب موعد موسم الأمطار، وصعوبة توفير الموارد المالية سواء لإنهاء الأعمال الخرسانية أو لإزالة الغابات وتمهيد التربة في المنطقة المحيطة بالسد استعدادًا للملء الثالث.
أما فيما يتعلق بواقع المفاوضات بين أطراف الأزمة الثلاثة، فإن آخر جولة اجتمعت فيها الدول الثلاث كانت في أبريل من عام 2021 في كينشاسا، حين كانت الكونغو الديمقراطية تتولى رئاسة الاتحاد الأفريقي الذي كان من المفترض أن يلعب دورًا أكثر فاعلية في مناقشة أبعاد الأزمة والوصول إلى حل ملزم لجميع الأطراف. ولم تحرك الدول الثلاث ساكنًا منذ مناقشة القضية أمام مجلس الأمن في سبتمبر 2021 في ظل تراجع اهتمام المجتمع الدولي بالقضية بسبب الأوضاع العالمية، وغياب دور الاتحاد الأفريقي في قضية السد الإثيوبي منذ تولي السنغال رئاسته في فبراير 2022، واهتمام حكومات الدول الثلاث بالأوضاع الداخلية ومحاولة تجنب الآثار السلبية التي خلفتها جائحة كوفيد-19 ومن بعدها الحرب الروسية الأوكرانية.
على الرغم من الإصرار الإثيوبي على التحرك الأحادي، إلا إن مصر والسودان ما زالتا متمسكتين باتباع السبل الدبلوماسية، من خلال الإعلان الرسمي عن رفض التحركات الإثيوبية التي تنتهك “إعلان المبادئ” الذي وقعت عليه الدول الثلاث في مارس 2015، والتي تكشف أمام جميع الأطراف المعنية خبث النوايا الإثيوبية الطامحة لفرض هيمنتها على مياه النيل وحرمان مصر والسودان من حقوقهما التاريخية التي تثبتها الاتفاقيات الدولية بين كل دول حوض النيل.
إضافةً إلى ذلك، فإن التحركات الدبلوماسية التي اتخذتها مصر والسودان على مدار السنوات الثلاث المنقضية وضعت مجلس الأمن الدولي والاتحادين الأوروبي والأفريقي أمام مسؤولياتهم لحفظ أمن المنطقة الذي تهدده إثيوبيا بإصرارها على المُضي قدمًا في ملء السد دون تبادل للبيانات أو اتفاق مسبق مع دولتي المصب.
إثيوبيا.. نهج هجومي ضد الجميع
تستمر إثيوبيا في اتباع نهجها الهجومي ضد الجميع، والذي يبدو ظاهريًا أنه حقق لها بعض النتائج المُرضية على مدار السنوات الثلاث الماضية؛ فبعد تدخل الولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لمحاولة تقريب وجهات النظر بين الدول الثلاث أواخر عام 2019، رأى المسؤولون الإثيوبيون أن الولايات المتحدة تساند المصالح المصرية على حساب الإثيوبيين، وهاجموا الموقف الأمريكي بشدة من خلال أحاديث المسؤولين المحليين وتجمع السود في الكونجرس الأمريكي، ليتمكنوا بعدها من تنفيذ الملء الأول.
وعلى الرغم من ممارسة الولايات المتحدة بعض الضغط على مسؤولين إثيوبيين بسبب تردي أوضاع حقوق الإنسان، إلا أن رحيل ترامب وتولي جو بايدن زمام الأمور وضع قضية سد النهضة وتأثيرها على أمن المنطقة في آخر قائمة اهتمامات الإدارة الأمريكية.
ولم يتغير المشهد كثيرًا بين عامي 2020 و2022، فقد هاجمت الخارجية الإثيوبية على لسان متحدثها الرسمي “دينا مفتي” موقف الاتحاد الأوروبي من قضية السد الإثيوبي؛ ففي 20 يونيو الجاري، أصدر الاتحاد الأوروبي بيانًا مشتركًا مع الخارجية المصرية في ختام الاجتماع التاسع لمجلس المشاركة بين مصر والاتحاد الأوروبي تناول فيه معظم القضايا ذات الاهتمام المشترك بما في ذلك قضايا التنمية والأمن وحقوق الإنسان وغيرها، وصولًا إلى قضية السد الإثيوبي في نهاية البيان للتأكيد على ضرورة التوصل إلى اتفاق مقبول وملزم لجميع الأطراف حول ملء وتشغيل السد.
ورأى الاتحاد الأوروبي أن التوصل إلى هذا الاتفاق في أسرع وقت ممكن هو أولوية قصوى بالنسبة له من أجل حماية أمن مصر المائي ودعم السلام والاستقرار في المنطقة ككل. وأكد الاتحاد الأوروبي أن التوصل إلى اتفاق سوف يعود بالفائدة على ملايين الأشخاص المقيمين في دول حوض النيل، ويفتح الباب أمام الاستثمارات الأجنبية في الطاقة والأمن الغذائي والمائي.
وعلى الرغم من الشمولية التي تمتع بها بيان الاتحاد الأوروبي في تناول القضايا التي تمثل فيها مصر طرفًا أصيلًا، إلا أن الخارجية الإثيوبية عدّته “متحيزًا وغير مقبول بكل المعايير، وأنه يهدف إلى ضمان الحصة التاريخية لمصر من الاتفاقيات الاستعمارية والتي لا تعطي الحق لبقية دول حوض النيل”، وطالب المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية الاتحاد الأوروبي -الذي شارك في مراحل المفاوضات الأخيرة حول السد الإثيوبي- بضرورة إعادة النظر في البيان الذي أصدره لأنه –وفق تعبيره- لا يراعي المصالح المشتركة للدول الثلاث، ويحافظ على المصالح المصرية فقط.
ليتضح من ذلك أن إثيوبيا مستمرة في اتباع استراتيجيتها الهجومية ضد كل المواقف الداعمة للوصول إلى اتفاق؛ ظنًا من مسؤوليها أنها ناجحة في تحقيق أهدافهم، ولكن حقيقة الأمر أنها تُفقد إثيوبيا فرصها في عقد الشراكات المستقبلية مع كيانات بحجم مصر والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية.
مستقبل الأزمة
من العرض السابق للوضع الراهن وموقف الحكومة الإثيوبية، يمكن الذهاب إلى أن مستقبل الأزمة على المدى القريب سوف يتمثل على الأرجح في النقاط التالية:
- استنادًا إلى سيناريو العام الماضي، سوف تتمكن إثيوبيا من تحقيق هدفها بتعلية جسم السد وصولًا إلى مستوى 595 مترًا فوق مستوى سطح البحر في حالة استقرار مستويات الأمطار عند المعدلات الطبيعية في هذا التوقيت من العام، ولكنها لن تتمكن من تخزين كمية المياه المستهدفة (18 مليار متر مكعب) بالكامل؛ نظرًا إلى تأخر موعد التخزين وتأجيله لشهري أغسطس وسبتمبر، وعدم الانتهاء من إزالة الغابات بشكل كامل من المنطقة المحيطة بالسد.
- سوف يحث الاتحاد الأوروبي الدول الثلاث خلال الفترة القليلة المقبلة على العودة إلى طاولة المفاوضات من جديد؛ من أجل إحداث توافق -ولو جزئي- حول النقاط الخلافية العالقة، على أن يكون الدور الأبرز في قيادة المفاوضات للسنغال بصفتها رئيس الاتحاد الإفريقي الحالي.
- سوف تستمر الحكومة المصرية بالتعاون مع الجانب السوداني في السعي نحو فرض مشروع قرار دولي يمنع إثيوبيا من التصرفات الأحادية الهادفة إلى فرض الهيمنة على مياه النيل، وقد تعود الدول الثلاث من جديد إلى مجلس الأمن الدولي بحلول سبتمبر أو أكتوبر المقبلين لمناقشة القضية.
- قد تسهم الظروف العالمية الراهنة في تبني إثيوبيا موقفًا أقل تشددًا في تعاملها مع قضية السد، بما يتحول بالموقف إلى حل القضايا العالقة بشأن آليات تبادل البيانات وتشغيل السد.
في الأخير، يمكن القول إن حديث الرئيس السيسي حول المدى الزمني لحل قضية السد الإثيوبي كان واقعيًا جدًا، فقد قال إن هذه القضية ستستمر لسنوات؛ ذلك أن الجانب الإثيوبي ما زال غير قادر على إدراك عواقب الإضرار بالأمن المائي ومن ثم الأمن القومي لمصر، وأن اتباع السبل الدبلوماسية يظل مرهونًا بعدم الإضرار بالمصالح المصرية. وعلى الرغم من اتخاذ إثيوبيا خطوات أحادية خلال العامين الماضيين، وسوف تستمر على الأرجح خلال العام الجاري، إلا إن انتظام تدفق المياه وعدم التأثير على حصة مصر من مياه النيل بسبب زيادة أو ثبات كميات الأمطار على الهضبة الإثيوبية يعد أحد أسباب اتباع سياسة النفس الطويل، ولكن من غير المتوقع أن تستمر مصر في اتباع نفس السياسة دون اتفاق ملزم خلال فترات الجفاف التي من شأنها أن تحجب المياه بشكل كامل لضمان تشغيل توربينات السد.