"فاتيكان الإسلام"
بعد انتهاء فترة عمله في أواخر عام 1993، كتب سير آلان تقريرا مفصلا شرح فيه الوضع السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي في السعودية لمساعدة صانعي السياسات البريطانية تجاه المملكة. واختار السفير "العربية السعودية: الإحياء الإسلامي" عنوانا لتقريره، الذي وُجه إلى وزير الخارجية مباشرة.
وعبّر السفير عن اعتقاده بأن للتديّن في السعودية جوانب إيجابية تخدم مصالح المملكة والغرب في الوقت نفسه. فهذا التدين "بجوانبه الإيجابية يوفر القوة الموحدة في هذه المملكة المترامية الأطراف".
صدر الصورة،Getty Images
التعليق على الصورة،ميجور يتحدث إلى القوات البريطانية في السعودية في شهر يناير/كانون الثاني عام 1991. وحسبما تقول الوثائق البريطانية، فقد غذى وجود القوات الأجنبية في المملكة حجج أنصار الصحوة الإسلامية الذين انتقدوا تأثيرات هذا الوجود و اعتبروه نفوذا سلبيا غربيا في المملكة.
وبسبب أهمية تقرير سير آلان، فقد أرسلت نسخ منه إلى وزيري الدفاع والتجارة، ورئيس خدمات الصادرات الدفاعية (مبيعات السلاح) وممثلي بريطانيا في كل دول الخليج وإيران ومصر وعمان وسوريا واليمن وباكستان.
يروى السفير أن الملك فهد وصف المملكة، في أحد لقاءاته به، بأنها "فاتيكان الإسلام". غير أنه رصد ما ألمح إلى أنه تناقض تعيشه السعودية بين تدين ظاهر وشكاوى من مخالفة تعاليم الإسلامية. وهذا هو، حسب رصده، أحد أسباب الاتجاهات المتطرفة التى يُخشى منها داخل المملكة وخارجها.
وقال سير آلان إن هناك "ضيقا مبدئيا داخل المجتمع السعودي يعبر عن نفسه في التدين الظاهر وفي الاتهامات المثارة بشأن الانحلال المخالف للإسلام في الإدارة وفي السياسة الخارجية. وهذا المزاج هو بشكل أساسي من نبت الداخل".
وأكثر ما أقلق البريطانيين في هذا الوقت هو مصير حكم آل سعود في مواجهة التأثيرات التي خلفها وجود القوات الأجنبية، ومنها البريطانية، في المملكة في أثناء حرب تحرير الكويت من الاحتلال العراقي.
صدر الصورة،Social Media
التعليق على الصورة،سلمان العودة، المعتقل في السعودية منذ سنوات، قاد حملة توقيعات على "مذكرة النصيحة" التي ارسلت إلى الملك فهد عام 1992 في ذروة الصحوة الإسلامية.
ولفت السفير انتباه حكومته إلى أنه بعد رحيل القوات الأجنبية "ظهر رد فعل قوي أخذ شكل سلسلة من البيانات الداعية إلى تطبيق معايير إسلامية صارمة في الإدارة العامة من أجل تنقية المجتمع من التلوث الغربي".
ورصد تلقي هذه الدعوة "استجابة بين الشباب السعودي في الجامعات، وعلى جبهة أوسع".
وأضاف: "جانب مهم من رسالة المتطرفين هو انتقادها الضمني لحق آل سعود في الحكم. والامتيازات التي ضمنها بعض أعضاء العائلة في مجال الأعمال الحكومية تحولت أيضا إلى قضية تغذي الاستياء، يدعمها هالة فساد في المراكز العليا، التي يتعرض بلا شك شاغلوها من الجيل الأكبر سنا من آل سعود، لموقف ضعيف يسهل نقده".
كيف رأى البريطانيون طريقة تعامل النظام السعودي مع هذه الانتقادات التي استند إليها دعاة الصحوة في المطالبة بالإصلاح؟
انطلق موقف البريطانيين من أن الإجراءات القديمة، مثل القمع والاعتقال، في التعامل مع الأفكار المتطرفة "أصبحت بالية"، وأن "الشبان من آل سعود يدركون الحاجة إلى نقاش أوسع لموجهة نفوذ المتطرفين"، كما قال السفير.
ويكشف سير آلان أنه ناقش مع مختلف رموز النظام السعودي السياسي والأمني، جدوى سياستي القبلية والاعتقالات في مواجهة رموز الصحوة. وانتقد تهديد النظام بمثل هذه السياسات ووصفها بأنها "خرقاء".
وفي تقريره ، قال السفير: "في مسعى أخرق آخر لمواجهة رسالة الإسلاميين، دخلت الحكومة النقاش عبر شرائط الكاسيت عن طريق رعاية توزيع الشرائط التي تتضمن مواعظ ذات نبرة أكثر اعتدالا. وتم إيضاح أنه لو تدهور الوضع، حينئذ سوف يكشر آل سعود عن أنيابهم مرة أخرى، حيث يستدعون ولاء القبلية البدوية لدعم سلطة النظام".
ولمّح السفير إلى أنه صارح المسؤولين السعوديين، ومن بينهم ولي العهد في حينه الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، بضرورة علاج جذور المشكلة وليس أعراضها فقط.
وقال إن نهج السعوديين "عفا عليه الزمن، ويعتمد على سجل الأبوية في الماضي، والتلاعب الاجتماعي، ويعالج الأعراض وليس الأسباب".
ونصح بالسماح بـ "التعبير عن الجدل علنا"، مؤكدا أن "الطريقة البالية في قمع المنابر لن تجلب الهدوء بل تخلق فراغا يثير الاستياء".
ونبّه إلى أن "أحد أوجه ضعف الملك فهد وجيله الأكبر سنا من آل سعود هو أنهم يخافون النقاش، خشية أن يُطلق العنان لصراع" في المملكة.
وتحدث السفير عما وصفه بالتعقيد المتنامي في المجتمع السعودي الفتي، الذي يحكمه كبار السن، ويحتاج، وفق تصور البريطانيين إلى نظام حكم لا يقوم فقط على "الأبوية الخيرة".
وحذّر من أنه ما يحدث في المملكة "يسمح للأفكار الإسلامية المتشدّدة بأن تملأ الفراغ السياسي"، مشيرا إلى أن "المحاباة والفساد داخل أجزاء من أسرة آل سعود توفر هدفا للنقد".
وعّبر عن اعتقاده بأن "التوبيخ وإمكانية استخدام القمع سوف يشتريان الوقت لكنهما سوف يولدان الاستيا، (لذا) فإن هناك حاجة إلى سياسات أجرأ وأكثر راديكالية".
وكان تقدير السفير أنه في الحالة السعودية" هناك علاجات متاحة لا تتعارض مع التقليد الإسلامي. وهذه العلاجات تشمل النقاش العام، صحافة أكثر حرية، حكومة أكثر انفتاحا، وتشجيعا على ريادة الأعمال وإعطاء الجيل الأصغر أهمية أكبر".
ونبّه إلى أن هذه الخطوات "سوف تحرم هؤلاء الذين يعملون على خلق مجتمع مسلم متشدد ضيق الأفق من التأثير الذي يحققونه الآن".
واقترح السفير العمل لدى آل سعود لدفعهم إلى تغيير سياساتهم و "طرح علاجات أوسع" لتصحيح المسار. وبرّر هذا قائلا "مصلحتنا مرتبطة باحتواء آل سعود لأضرار التطرف والاتجاهات المعادية للغرب".
وتوقع سير آلان ألا تكون مهمة بلاده صعبة، مشيرا إلى أن علاقات البلدين "وثيقة"، بالإضافة إلى أن البريطانيين يتمتعون بـ "قرب جيد" من آل سعود، الأمر الذي" يتيح فرصة لتشجيع سياسة ضرورية تتمثل في الانفتاح الأكبر".
ونصح حكومته بأنه "لا بد أن نراقب هذه العملية عن قرب مع تكثيف تشجيع آل سعود، وخاصة الجيل الأكبر سنا، على إدراك أن تخفيف القيود في المملكة يخدم مصالحهم ومصالحنا".
هل لدى آل سعود القدرة على خوض مثل هذه التجربة؟
عبّر الدبلوماسي البريطاني، الذي كانت لديه في ذلك الوقت خبرة تبلغ 35 عاما في التعامل مع شؤون العرب سفيرا في دولهم أو مسؤولا في حكومة بلاده عن الملفات ذات الصلة بهم، عن اعتقاده بأن "آل سعود لديهم المهارة لإنفاذ هذه التغييرات".