- إنضم
- 20 نوفمبر 2021
- المشاركات
- 3,234
- مستوى التفاعل
- 9,735
- المستوي
- 3
- الرتب
- 3
عودة مع محاولات سرقة التاريخ المصرى القديم
(الأهرامات أصلها عراقي !) ?♂️
بتاريخ الـ30 من شهر مايو 2021م نشرت قناة (المحور الإلكترونية) الكويتية على اليوتيوب مقطعاً من سلسلة حلقات من برنامج (الصندوق الأسود) حيث كان الضيف هذه المرة سياسي وعضو في البرلمان العراقي يُدعى (فائق الشيخ علي) , حيث تحدّث في هذا المقطع تحديداً عن إسهامات (السومريين) في الحضارة المصرية القديمة وكيف أن هناك عناصر ثقافية سومرية دخلت لمصر عن طريق هجرة بشرية سومرية لمصر العليا (الصعيد)
واستهلَّ الأستاذ فائق كلامه بنسب هذه الادعاءات إلى أكاديمي مصري يُدعى (عكاشة الدالي) الذي -وفقاً للسيد فائق- عرض هذه الاكتشافات على مجموعة من العلماء العراقيين والمصريين في ديوان الكوفة بلندن
أما عن الادّعاءات فهي كالتالي:
1) الكتابة الهيروغليفية لم تكن تحتوي على رموز لحيوانات تدل على قوة بدنية كالثيران والأسود , وهي رموز أدخلها السومريين لمصر بعد هجرتهم
2) لم يعرف المصريون زراعة بعض المحاصيل كالقمح والأرز حتى أحضرها السومريون لمصر
3) الأهرامات فكرة عراقية حيث استلهمها ملوك مصر من (الزقّورات) التي كانت على حد تعبير الأستاذ فائق مدافن للموتى
ثم ذكر في معرض حديثه أن الفارق بين حضارة مصر وسومر ألف سنة , حيث أن حضارة مصر عمرها حتى اليوم 7 آلاف عام , في حين أن حضارة سومر عمرها 8 آلاف عام.
وقبل البدء في الرد قمت بعمل بحث عن الدكتور عكاشة الدالي على شبكة الانترنت ووجدت أنه لم ينشر ورقة بحثية واحدة يتحدث فيها عن هذه الاكتشافات (التأثيرات السومرية) التي عرضها في ديوان الكوفة بلندن والتي توصل لها أثناء تواجده في مصر ضمن إحدى البعثات الأثرية -على حد زعم الأستاذ فائق-
فكان من المفترض أن يقوم عكاشة الدالي بتوثيق هذه الاكتشافات في بحث علمي باسمه على الأقل.
أما عن الرد فهو كالتالي:
في الحقيقة فإن ما ذُكِرَ أعلاه ليس "مفاجأة" , حيث أن هذه النظرية قديمة وموجودة بالفعل حيث يناقش علماء الآثار مسألة وجود تأثيرات ثقافية سومرية على مصر نتيجة لوجود طريق تجاري بين مصر والعراق منذ العصر العتيق , وتفاوت تقدير العلماء لهذا التأثير إلى درجة أن بعضهم ادعى (قديماً) بأن أول السلالات الملكية في مصر كانت من بلاد الرافدين (نظرية: جنس الأسرات\Dynastic Race)
ولكن بشكل عام فإن هناك بعض النقاط الصحيحة في هذا النقاش وهي وجود بعض التأثيرات الثقافية السومرية الطفيفة في مصر والتي لا تتعدى الجانب الفنّي
لكن لا يوجد بأي حال دليل يثبت حدوث هجرة سومرية لمصر أو يعطي وزناً كبيراً للتأثيرات السومرية التي وصلت مصر بشكل مباشر عن طريق التفاعل مع المستعمرات السومرية في الشام (خاصّة مستعمرات حقبة أوروك) , مع العلم بأن الملوك كانوا يقومون بعملية "تصفية" إن صح التعبير للتأثيرات فنجد أنهم اختاروا بعض الأفكار كـ(السرخ) الذي يتم كتابة اسم الملك فيه مع بعض العناصر الفنية الأخرى كالحيوانات ذات الرقاب الطويلة التي نجدها في صلايات العصر العتيق
في حين أن الملوك المصريين لم يتبنوا النموذج السومري في المعابد أو التحصينات أو المدافن.
والتاريخ لا يذكر حدوث قحط أو ظروف قهرية اضطرت جماعة من السومريين إلى الهجرة غرباً لمصر في العصور المبكرة كما ذكر الأستاذ فائق أيضاً
ومن الجدير بالذكر أن التأثيرات الفنية السومرية اختفت بدرجة كبيرة جداً بعد توحيد القطرين وحل محلها عناصر مصرية.
أما عن فكرة ادخال السومريين لرموز تدل على القوة كالثيران والأسود للكتابة الهيروغليفية فهي فكرة تجانب المنطق وذلك لانتشار هذه الحيوانات في مصر , وحتى أن صيد الأسود كان من الهوايات التي اشتهر بها بعض الحكام (كملوك الأسرة الـ18)
وبما أن المصريين تفاعلوا بشكل كبير مع البيئة المحيطة بهم وقاموا بنقش العديد من الكائنات كان من المتوقع أن يكون من ضمنها الثيران والأسود (وهو ما حدث بالفعل)
أي أن المصريين لم يكونوا بحاجة إلى مهاجرين من الخارج ليلفتوا أنظارهم إلى حيوانات منتشرة في بلادهم في ذلك الوقت , وكل الرموز الهيروغليفية تطورت في مصر حتى أن الكتابة الهيروغليفية ظهرت في وقت مقارب ولكن بشكل مستقل عن الكتابة المسمارية (كتابة السومريين) , مع بقاء مسألة تحديد الأقدمية مرهونة بالاكتشافات الأثرية (فمن الصعب إطلاق حكم مطلق)
وحتى الآن فإن الأقدمية للكتابة الهيروغليفية وذلك نتيجة لاكتشاف نقوش هيروغليفية تُؤرخ لما قبل اختراع الكتابة المسمارية في أبيدوس بمقبرة الملك العقرب الأول في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بواسطة العالم الألماني غونتر درير
وهي معلومة لا تلقى انتشاراً كبيراً (ربما لقلّة هوس المصريين بالمقارنات التاريخية).
أما عن المحاصيل فإن ما ذكره الأستاذ فائق به شيء من الصحة حيث أن العديد من المحاصيل الزراعية دخلت مصر خاصة في العصر الحجري الحديث (بالنسبة لمصر: الألفية 8 ق.م – الألفية 6 ق.م) عن طريق مهاجرين جاؤوا من الهلال الخصيب , لكن تلك الهجرات دخلت مصر قبل وصول السومريين للعراق , أي أن مصدر تلك المحاصيل لم يكن سومرياً.
والآن نأتي إلى الجزء الأبرز من هذه الادعاءات وهو ادعاء الأصل السومري لأهرامات مصر
وهو ادعاء ضعيف قائم على الربط بالشبه بين الزقورات والأهرامات (وخاصة هرم زوسر المدرّج)
وهنا سنلاحظ أن مردّدي الادعاء تجاهلوا 3 أمور بالغة الأهمية:
1) ظهرت فكرة الأهرامات في عهد الدولة القديمة , أي في وقتٍ متأخر يصعب فيه افتراض حدوث هجرات سومرية لمصر واعتبارها سبباً لظهور الفكرة وذلك لأن التاريخ لا يذكر مطلقاً حدوث هجرة بشرية لمصر في عهد الدولة القديمة
وبالتالي لو كان مصدر الفكرة مهاجرون من العراق لظهرت في الوقت الذي يفترض فيه البعض حدوث هجرة سومرية لمصر (العصر العتيق)
2) تاريخ ظهور الأهرامات وتطور مدافن الملوك المصريين معروف ولم تظهر فكرة الأهرامات فجأة أو بشكل غامض في مصر حتى نضع السومريين كمصدر محتمل لها
فنحن نعلم جيداً أن الملوك المصريين كانوا يُدفنون بادئ الأمر في مصاطب , ثم قام المهندس المصري (إمحوتب) في عهد الأسرة الـ3 ببناء قبر للملك زوسر , باتخاذ خطوة كانت أساس بناء الأهرامات في مصر وهي بناء عدّة مصاطب فوق بعضها البعض بحيث تكون كل طبقة أصغر من التي سبقتها وهو ما ألهم المهندسين فيما بعد وظل بناء الأهرامات مستمراً حتى بداية الدولة الحديثة
فالفكرة مصدرها ليس مهاجرين سومريين بل مهندس مصري ذو مكانة عظيمة جداً في مصر القديمة.
3) أول هرم مصري سبق ظهور الزقّورات في العراق أصلاً !
حيث أن تقدير ظهور مباني الزقّورات الشهيرة في بلاد الرافدين يوضع بشكل عام في الحقبة الثالثة من عصر فجر السلالات السومري (2,600 ق.م – 2,350 ق.م) , لكن بعض العلماء يعطي تقديراً أكثر تحديداً فيقول بأنها بدأت في عام 2,200 ق.م (أواخر الألفية الثالثة ق.م)
أما عن هرم زوسر (أقدم هرم في وادي النيل) فلقد تم بناؤه قطعاً قبل بدأ الحقبة الثالثة من عصر فجر السلالات بـ50 عاماً على الأقل حيث أن تاريخ بداية حكم الأسرة الـ3 يبدأ في عام 2,700 ق.م تقريباً
وبما أن الملك زوسر حكم 19 عاماً ثم دفن في هرمه فقطعاً تم بناء الهرم والمجمع الجنائزي بالكامل خلال هذه المدّة (في الربع الأول من القرن الـ27 ق.م) , أي قبل بداية الحقبة الثالثة التي بدأ فيها بناء المعابد بالشكل الهرمي المدرّج في سومر بأكثر من 50 عاماً في حال افترضنا أن الزقورات بدأ بناؤها مباشرةً مع بداية الحقبة الثالثة , وإلاّ فالفارق الزمني سيصبح أكبر.
علاوةً على ذلك فإن الزقّورات ليست مدافن أساساً , بل هي بيوت ومعابد الآلهة فكانت توجد بكل مدينة سومرية زقّورة للإله\الإلهة الحامي\ة لها , أي أن السومريين لم يدفنوا موتاهم في مبانٍ هرمية أو زقّورات كما ادعى الأستاذ فائق , بل كان يتم دفنهم في حجرات عادية.
نأتي بعد ذلك لمسألة الأسبقية التاريخية بين مصر وسومر التي هي محل جدال بين المصريين والعراقيين حتى هذا اليوم رغم أن الفارق في النهاية ليس كبيراً ولا يتعدى قرناً من الزمن في أحسن الأحوال , وهي فترة بسيطة في عمر التاريخ
وهنا أود أن أسلط الضوء على نقطة بسيطة وهي:
في الوقت الذي وصل فيه السومريين كمهاجرين لأرض العراق (الألفية الرابعة ق.م) كانت هناك كيانات حضارية قائمة في شمال مصر وجنوبها منذ زمن بعيد , ومنها:
- حضارة الفيوم بمراحلها المختلفة
- حضارة مرمدة (بغرب الدلتا)
- العماري (بقرب القاهرة)
- المعادي
- البداري (بأسيوط)
كما أن مصر القديمة كانت أطول عمراً من حضارة بلاد الرافدين حيث استمرت بعد سقوط بابل بـ509 سنة (حتى سقوط الإسكندرية سنة 30 ق.م) , بجانب أنها كانت أكثر تماسكاً من الناحية السياسية والاجتماعية حيث أن الأصل في مصر كان وحدة الشمال والجنوب والتفكك كان حالةً عرضية , في حين أن الوحدة السياسية كانت تعتبر أمراً طارئاً في العراق يحدث مع صعود ملك قوي قادر على الهيمنة على كامل البلاد.
وختاماً أدعو الجميع دوماً إلى التدقيق في أي مسألة جدلية بحيادية تامّة وذلك لأن التاريخ للأسف هو من أكثر المجالات التي يكثر فيها (الفَتي) كما أن العديد ممّن يقدمون محتوىً تاريخي على مواقع مختلفة في الإنترنت -كاليوتيوب مثلاً- ليسوا مختصين أو حتى قارئين جيدين للتاريخ القديم
وبرغم ذلك تجدهم بدلاً من أن يقدموا محتوىً يناسب حجم إطلاعهم يغوصون في أعماق موضوعات جدلية تحتاج إلى قراءة متعمقة بل وربما تتطلب متخصصاً ليتحدث فيها
وأنصح أيضاً الشعوب المحيطة بأن تبدأ بفهم تاريخها هي أولاً , بدلاً من إزعاج المصريين بإطلاق الخرافات حول تاريخهم وبلدهم بين حينٍ وآخر
شكراً جزيلاً على القراءة.
(المصادر)
الكتب:
Ancient Egypt – Douglas J. Brewer
2. A history of Ancient Egypt (Volume I) – John Romer
3. Archaic Egypt – W.B. Emery
4. Mesopotamia – Kathleen Kuiper
5. Sumer and the Sumerians – Harriet Crawford
6. Ancient Iraq – Georges Roux
7. The Ancient Near East History – Mario Liverani
8. The Archaeology of Mesopotamia - Seton Lloyd
9. A Companion to the archaeology of the Ancient Near East (Volume I) - D.T. Potts
10. The Oxford History of Historical Writing (Volume I) – Andrew Feldherr and Grant Hardy
11. Encyclopedia of Ancient Egypt – Margaret R. Bunson
12. The Oxford History of Ancient Egypt – Ian Shaw
13. A History of Ancient Egypt – Marc Van De Mieroop
14. Early Dynastic Egypt – Toby A.H. Wilkinson
أوراق بحثية:
1) The Oldest Writings, and Inventory tags of Egypt – Richard Mattessich
2) New 14C dating of the archaic royal necropolis Umm EL-Qaab at Abydos (Egypt) – Jochen Görsdorf, Günter Dreyer and Ulrich Hartung
https://www.facebook.com/
(الأهرامات أصلها عراقي !) ?♂️
بتاريخ الـ30 من شهر مايو 2021م نشرت قناة (المحور الإلكترونية) الكويتية على اليوتيوب مقطعاً من سلسلة حلقات من برنامج (الصندوق الأسود) حيث كان الضيف هذه المرة سياسي وعضو في البرلمان العراقي يُدعى (فائق الشيخ علي) , حيث تحدّث في هذا المقطع تحديداً عن إسهامات (السومريين) في الحضارة المصرية القديمة وكيف أن هناك عناصر ثقافية سومرية دخلت لمصر عن طريق هجرة بشرية سومرية لمصر العليا (الصعيد)
واستهلَّ الأستاذ فائق كلامه بنسب هذه الادعاءات إلى أكاديمي مصري يُدعى (عكاشة الدالي) الذي -وفقاً للسيد فائق- عرض هذه الاكتشافات على مجموعة من العلماء العراقيين والمصريين في ديوان الكوفة بلندن
أما عن الادّعاءات فهي كالتالي:
1) الكتابة الهيروغليفية لم تكن تحتوي على رموز لحيوانات تدل على قوة بدنية كالثيران والأسود , وهي رموز أدخلها السومريين لمصر بعد هجرتهم
2) لم يعرف المصريون زراعة بعض المحاصيل كالقمح والأرز حتى أحضرها السومريون لمصر
3) الأهرامات فكرة عراقية حيث استلهمها ملوك مصر من (الزقّورات) التي كانت على حد تعبير الأستاذ فائق مدافن للموتى
ثم ذكر في معرض حديثه أن الفارق بين حضارة مصر وسومر ألف سنة , حيث أن حضارة مصر عمرها حتى اليوم 7 آلاف عام , في حين أن حضارة سومر عمرها 8 آلاف عام.
وقبل البدء في الرد قمت بعمل بحث عن الدكتور عكاشة الدالي على شبكة الانترنت ووجدت أنه لم ينشر ورقة بحثية واحدة يتحدث فيها عن هذه الاكتشافات (التأثيرات السومرية) التي عرضها في ديوان الكوفة بلندن والتي توصل لها أثناء تواجده في مصر ضمن إحدى البعثات الأثرية -على حد زعم الأستاذ فائق-
فكان من المفترض أن يقوم عكاشة الدالي بتوثيق هذه الاكتشافات في بحث علمي باسمه على الأقل.
أما عن الرد فهو كالتالي:
في الحقيقة فإن ما ذُكِرَ أعلاه ليس "مفاجأة" , حيث أن هذه النظرية قديمة وموجودة بالفعل حيث يناقش علماء الآثار مسألة وجود تأثيرات ثقافية سومرية على مصر نتيجة لوجود طريق تجاري بين مصر والعراق منذ العصر العتيق , وتفاوت تقدير العلماء لهذا التأثير إلى درجة أن بعضهم ادعى (قديماً) بأن أول السلالات الملكية في مصر كانت من بلاد الرافدين (نظرية: جنس الأسرات\Dynastic Race)
ولكن بشكل عام فإن هناك بعض النقاط الصحيحة في هذا النقاش وهي وجود بعض التأثيرات الثقافية السومرية الطفيفة في مصر والتي لا تتعدى الجانب الفنّي
لكن لا يوجد بأي حال دليل يثبت حدوث هجرة سومرية لمصر أو يعطي وزناً كبيراً للتأثيرات السومرية التي وصلت مصر بشكل مباشر عن طريق التفاعل مع المستعمرات السومرية في الشام (خاصّة مستعمرات حقبة أوروك) , مع العلم بأن الملوك كانوا يقومون بعملية "تصفية" إن صح التعبير للتأثيرات فنجد أنهم اختاروا بعض الأفكار كـ(السرخ) الذي يتم كتابة اسم الملك فيه مع بعض العناصر الفنية الأخرى كالحيوانات ذات الرقاب الطويلة التي نجدها في صلايات العصر العتيق
في حين أن الملوك المصريين لم يتبنوا النموذج السومري في المعابد أو التحصينات أو المدافن.
والتاريخ لا يذكر حدوث قحط أو ظروف قهرية اضطرت جماعة من السومريين إلى الهجرة غرباً لمصر في العصور المبكرة كما ذكر الأستاذ فائق أيضاً
ومن الجدير بالذكر أن التأثيرات الفنية السومرية اختفت بدرجة كبيرة جداً بعد توحيد القطرين وحل محلها عناصر مصرية.
أما عن فكرة ادخال السومريين لرموز تدل على القوة كالثيران والأسود للكتابة الهيروغليفية فهي فكرة تجانب المنطق وذلك لانتشار هذه الحيوانات في مصر , وحتى أن صيد الأسود كان من الهوايات التي اشتهر بها بعض الحكام (كملوك الأسرة الـ18)
وبما أن المصريين تفاعلوا بشكل كبير مع البيئة المحيطة بهم وقاموا بنقش العديد من الكائنات كان من المتوقع أن يكون من ضمنها الثيران والأسود (وهو ما حدث بالفعل)
أي أن المصريين لم يكونوا بحاجة إلى مهاجرين من الخارج ليلفتوا أنظارهم إلى حيوانات منتشرة في بلادهم في ذلك الوقت , وكل الرموز الهيروغليفية تطورت في مصر حتى أن الكتابة الهيروغليفية ظهرت في وقت مقارب ولكن بشكل مستقل عن الكتابة المسمارية (كتابة السومريين) , مع بقاء مسألة تحديد الأقدمية مرهونة بالاكتشافات الأثرية (فمن الصعب إطلاق حكم مطلق)
وحتى الآن فإن الأقدمية للكتابة الهيروغليفية وذلك نتيجة لاكتشاف نقوش هيروغليفية تُؤرخ لما قبل اختراع الكتابة المسمارية في أبيدوس بمقبرة الملك العقرب الأول في أواخر ثمانينيات القرن الماضي بواسطة العالم الألماني غونتر درير
وهي معلومة لا تلقى انتشاراً كبيراً (ربما لقلّة هوس المصريين بالمقارنات التاريخية).
أما عن المحاصيل فإن ما ذكره الأستاذ فائق به شيء من الصحة حيث أن العديد من المحاصيل الزراعية دخلت مصر خاصة في العصر الحجري الحديث (بالنسبة لمصر: الألفية 8 ق.م – الألفية 6 ق.م) عن طريق مهاجرين جاؤوا من الهلال الخصيب , لكن تلك الهجرات دخلت مصر قبل وصول السومريين للعراق , أي أن مصدر تلك المحاصيل لم يكن سومرياً.
والآن نأتي إلى الجزء الأبرز من هذه الادعاءات وهو ادعاء الأصل السومري لأهرامات مصر
وهو ادعاء ضعيف قائم على الربط بالشبه بين الزقورات والأهرامات (وخاصة هرم زوسر المدرّج)
وهنا سنلاحظ أن مردّدي الادعاء تجاهلوا 3 أمور بالغة الأهمية:
1) ظهرت فكرة الأهرامات في عهد الدولة القديمة , أي في وقتٍ متأخر يصعب فيه افتراض حدوث هجرات سومرية لمصر واعتبارها سبباً لظهور الفكرة وذلك لأن التاريخ لا يذكر مطلقاً حدوث هجرة بشرية لمصر في عهد الدولة القديمة
وبالتالي لو كان مصدر الفكرة مهاجرون من العراق لظهرت في الوقت الذي يفترض فيه البعض حدوث هجرة سومرية لمصر (العصر العتيق)
2) تاريخ ظهور الأهرامات وتطور مدافن الملوك المصريين معروف ولم تظهر فكرة الأهرامات فجأة أو بشكل غامض في مصر حتى نضع السومريين كمصدر محتمل لها
فنحن نعلم جيداً أن الملوك المصريين كانوا يُدفنون بادئ الأمر في مصاطب , ثم قام المهندس المصري (إمحوتب) في عهد الأسرة الـ3 ببناء قبر للملك زوسر , باتخاذ خطوة كانت أساس بناء الأهرامات في مصر وهي بناء عدّة مصاطب فوق بعضها البعض بحيث تكون كل طبقة أصغر من التي سبقتها وهو ما ألهم المهندسين فيما بعد وظل بناء الأهرامات مستمراً حتى بداية الدولة الحديثة
فالفكرة مصدرها ليس مهاجرين سومريين بل مهندس مصري ذو مكانة عظيمة جداً في مصر القديمة.
3) أول هرم مصري سبق ظهور الزقّورات في العراق أصلاً !
حيث أن تقدير ظهور مباني الزقّورات الشهيرة في بلاد الرافدين يوضع بشكل عام في الحقبة الثالثة من عصر فجر السلالات السومري (2,600 ق.م – 2,350 ق.م) , لكن بعض العلماء يعطي تقديراً أكثر تحديداً فيقول بأنها بدأت في عام 2,200 ق.م (أواخر الألفية الثالثة ق.م)
أما عن هرم زوسر (أقدم هرم في وادي النيل) فلقد تم بناؤه قطعاً قبل بدأ الحقبة الثالثة من عصر فجر السلالات بـ50 عاماً على الأقل حيث أن تاريخ بداية حكم الأسرة الـ3 يبدأ في عام 2,700 ق.م تقريباً
وبما أن الملك زوسر حكم 19 عاماً ثم دفن في هرمه فقطعاً تم بناء الهرم والمجمع الجنائزي بالكامل خلال هذه المدّة (في الربع الأول من القرن الـ27 ق.م) , أي قبل بداية الحقبة الثالثة التي بدأ فيها بناء المعابد بالشكل الهرمي المدرّج في سومر بأكثر من 50 عاماً في حال افترضنا أن الزقورات بدأ بناؤها مباشرةً مع بداية الحقبة الثالثة , وإلاّ فالفارق الزمني سيصبح أكبر.
علاوةً على ذلك فإن الزقّورات ليست مدافن أساساً , بل هي بيوت ومعابد الآلهة فكانت توجد بكل مدينة سومرية زقّورة للإله\الإلهة الحامي\ة لها , أي أن السومريين لم يدفنوا موتاهم في مبانٍ هرمية أو زقّورات كما ادعى الأستاذ فائق , بل كان يتم دفنهم في حجرات عادية.
نأتي بعد ذلك لمسألة الأسبقية التاريخية بين مصر وسومر التي هي محل جدال بين المصريين والعراقيين حتى هذا اليوم رغم أن الفارق في النهاية ليس كبيراً ولا يتعدى قرناً من الزمن في أحسن الأحوال , وهي فترة بسيطة في عمر التاريخ
وهنا أود أن أسلط الضوء على نقطة بسيطة وهي:
في الوقت الذي وصل فيه السومريين كمهاجرين لأرض العراق (الألفية الرابعة ق.م) كانت هناك كيانات حضارية قائمة في شمال مصر وجنوبها منذ زمن بعيد , ومنها:
- حضارة الفيوم بمراحلها المختلفة
- حضارة مرمدة (بغرب الدلتا)
- العماري (بقرب القاهرة)
- المعادي
- البداري (بأسيوط)
كما أن مصر القديمة كانت أطول عمراً من حضارة بلاد الرافدين حيث استمرت بعد سقوط بابل بـ509 سنة (حتى سقوط الإسكندرية سنة 30 ق.م) , بجانب أنها كانت أكثر تماسكاً من الناحية السياسية والاجتماعية حيث أن الأصل في مصر كان وحدة الشمال والجنوب والتفكك كان حالةً عرضية , في حين أن الوحدة السياسية كانت تعتبر أمراً طارئاً في العراق يحدث مع صعود ملك قوي قادر على الهيمنة على كامل البلاد.
وختاماً أدعو الجميع دوماً إلى التدقيق في أي مسألة جدلية بحيادية تامّة وذلك لأن التاريخ للأسف هو من أكثر المجالات التي يكثر فيها (الفَتي) كما أن العديد ممّن يقدمون محتوىً تاريخي على مواقع مختلفة في الإنترنت -كاليوتيوب مثلاً- ليسوا مختصين أو حتى قارئين جيدين للتاريخ القديم
وبرغم ذلك تجدهم بدلاً من أن يقدموا محتوىً يناسب حجم إطلاعهم يغوصون في أعماق موضوعات جدلية تحتاج إلى قراءة متعمقة بل وربما تتطلب متخصصاً ليتحدث فيها
وأنصح أيضاً الشعوب المحيطة بأن تبدأ بفهم تاريخها هي أولاً , بدلاً من إزعاج المصريين بإطلاق الخرافات حول تاريخهم وبلدهم بين حينٍ وآخر
شكراً جزيلاً على القراءة.
(المصادر)
الكتب:
Ancient Egypt – Douglas J. Brewer
2. A history of Ancient Egypt (Volume I) – John Romer
3. Archaic Egypt – W.B. Emery
4. Mesopotamia – Kathleen Kuiper
5. Sumer and the Sumerians – Harriet Crawford
6. Ancient Iraq – Georges Roux
7. The Ancient Near East History – Mario Liverani
8. The Archaeology of Mesopotamia - Seton Lloyd
9. A Companion to the archaeology of the Ancient Near East (Volume I) - D.T. Potts
10. The Oxford History of Historical Writing (Volume I) – Andrew Feldherr and Grant Hardy
11. Encyclopedia of Ancient Egypt – Margaret R. Bunson
12. The Oxford History of Ancient Egypt – Ian Shaw
13. A History of Ancient Egypt – Marc Van De Mieroop
14. Early Dynastic Egypt – Toby A.H. Wilkinson
أوراق بحثية:
1) The Oldest Writings, and Inventory tags of Egypt – Richard Mattessich
2) New 14C dating of the archaic royal necropolis Umm EL-Qaab at Abydos (Egypt) – Jochen Görsdorf, Günter Dreyer and Ulrich Hartung
https://www.facebook.com/