في يوليو 1980 كان العراق يبذل جهداً مضنياً لإنضاج مشروعه النووي بالتعاون مع فرنسا مما أثار قلقاً إسرائيلياً بالغاً خوفاً من تملك دولة عربية أخرى لسلاح الردع الذي تمتلكه إسرائيل حصرياً في الشرق الأوسط.
استدعى تسفي زامير، مدير جهاز الموساد وقتها، ديفيد بيران مدير دائرة الاستوظاف بالموساد وطلب منه تقرير مفصل لإرساله إلى "أمان" وهي إدارة الاستخبارات العسكرية بالجيش الإسرائيلي. اتصل "بيران" بديفيد آربل مدير محطة الموساد بباريس والتي تقع في طابق محصن تحت الأرض بالسفارة الإسرائيلية والذي بدوره اتصل بأحد "السايانيم" وهم المساعدين المتطوعين اليهود من جميع طبقات المجتمع، وكان أحدهم ويدعى "جاك مارسيل" وهو اسمه الحركي يعمل في قسم الموظفين بمصنع "سارسيل" النووي وطلب منه إحضار قائمة بكل العراقيين العاملين هناك. وتم إرسال الأسماء إلى إدارة الأبحاث بالموساد والتي وقع رأيها على تجنيد "حليم" وهو أحد العلماء العراقيين.
كان حليم غير سعيد في زيجته كما كانت نقطة المال تزعجه كثيراً حيث كان يطمح دائماً للمزيد. اقترب منه الاسرائيليين بخطة محكمة عن طريق أحد المومسات مع إعطائه أموال بلغت في البداية 8 ألاف دولار مقابل معلومات سهل الوصول إليها ولكن مع إزدياد الطلبات بدأ حليم يشك في العملاء الإسرائيليين حتى صارحوه بإنهم يعملون لوكالة الاستخبارات المركزية وطلبوا منه معلومات تخص حصول العراق على اليورانيوم المخصب فسلمهم المعلومات ثم أخبرهم إن "يحيي المشد" وهو عالم نووي مصري، على وشك الوصول لفرنسا ليتفقد المشروع.
أصر "جاك دونوفان"، وهو الاسم الحركي لأحد العملاء، على ترتيب لقاء بحضور حليم مع المشد والذي كان حذراً بطبعه ولم يهتم كثيرأ بأمر دونوفان. حاول حليم الحصول على بعض المعلومات من المشد أيضاً ولكن محاولته باءت بالفشل. كان الاسرائيليون قد اعترضوا تلكسات تذكر بالتفصيل برنامج سفر المشد والمكان الذي سينزل فيه "الغرفة 9041 في فندق مريديان" مما سهل عليهم وضع أجهزة تنصت في غرفته.
كان الإسرائيليون يهدفون إلى تجنيده في البداية أما إن فشلوا وقتها سيتم إغتياله.
في 13 يونيو 1980 أرسل الموساد "يهودا غل" وهو ضابط يتكلم العربية إلى غرفة المشد، ومن فتحة ضيقة بالباب سأله المشد ماذا يريد فأجابه "إنني من سلطة تدفع نقوداً كثيرة للحصول على أجوبة" فرد عليه المشد "أذهب أيها الكلب وإلا اتصلت بالشرطة".
ليلاً، وبينما كان المشد نائماً، تسلل رجلان إلى غرفته وفتحاها بمفتاح خاص وذبحاه وفي صباح اليوم التالي وجدت إحدى الخادمات جثته منتقعة بالدماء.
صدر قرار إعدام المشد عن نظام داخلي شديد السرية ينطوي على قائمة إعدام ويتطلب موافقة شخصية من رئيس وزراء إسرائيل. يعمل هذا النظام بحيث يقدم رئيس الموساد طلباً إلى رئيس الوزراء بإضافة اسم شخص إلى قائمة الإعدام فيقوم رئيس الوزراء بإحالة الأمر إلى لجنة قضائية خاصة وتقوم اللجنة بمحاكمة المتهم غيابياً وإصدار الحكم ويجب إن يوقع رئيس الوزراء على قرار الإعدام قبل تنفيذه.
كانت عملية اغتيال المشد أحد العمليات الناجحة لوحدة كيدون أو "الحربة".
أُسست وحدة "كيدون" في بدايات الستينات أو السبعينات حيث لا توجد معلومات دقيقة عن تاريخ إنشائها وأُنشأت بهدف التصفية الجسدية لإعداء إسرائيل والأمة اليهودية ومن يعاونهم. كانت "مذبحة ميونخ" عام 1972 التي قامت بيها منظمة "سبتمبر الأسود" الفلسطينية نقطة تحول في عمل الوحدة حيث قامت باستهداف وتصفية الأفراد المرتبطين بالعملية على مدار عدة سنوات بعد أن طاردتهم في جميع أنحاء أوروبا ومنهم "علي حسن سلامة" و "محمود همشري" و "وائل زعيتر" وغيرهم.
تعمل وحدة كيدون ضمن جهاز "الكميمميوت" وترجمتها "الاستقلال برأس مرفوع" وهو دائرة شديدة السرية تعني بالمقاتلين من الموساد. تنقسم وحدة كيدون إلى 3 أقسام ويحتوي كل قسم على 12 فرد هم القتلة أو "يد العدالة الاسرائيلية الطويلة" كما يطلق عليهم. في العادة يوجد فريقين يتدربان داخل إسرائيل بينما يكون الفريق الثالث في مهمة خارجها وهم لا يعرفون شيء عن باقي أقسام الموساد ولا يعرفون أسماء بعضهم البعض الحقيقية.
يخضع عملاء وحدة كيدون لتدريب صارم في مجموعة واسعة من المجالات، من تكتيكات الاستخبارات القياسية ـ مثل تعقب الآخرين وتجنب تعقبهم؛ إلى أمور أكثر تخصصاً مثل القتال غير المسلح، والتدريب على الأسلحة، والمتفجرات، وحتى إتقان قيادة أنواع مختلفة من المركبات، بما في ذلك الدراجات النارية. عندما يتوجب على كيدون تنفيذ مهمة ما، فإنها تعمل مع فرقة اغتيالات تضم عملاء يغطون أربعة أدوار رئيسية: الاستطلاع، واللوجستيات، والمساعدة، والاغتيال. يحدد عميل الاستطلاع الهدف ويدرس روتينه. يحدد عميل اللوجستيات أفضل طريق يجب استخدامه، وأكثر المركبات أمانًا للهروب والعملية، حيث سيتم الاعتراض. دورهم أساسي في تسهيل العملية. العميل المساعد هو المسؤول عن قيادة الفريق وتقديم الدعم أثناء الهروب أو الاعتداءات. أخيرًا، يكون القاتل مسؤولاً عن تنفيذ الجزء الرئيسي من العملية، الاغتيال، باستخدام أي وسيلة ضرورية.
نتيجة لعملهم، يخضع عملاء وحدة كيدون لتقييم نفسي كل ستة أشهر ولا يظل العميل في الوحدة للأبد بل كل بضعة سنوات يتم اختيار عملاء جدد من المجتمع الدفاعي والاستخباراتي مع إنهاء عمل العملاء القدامى.
بينما تتعاون كيدون مع هيئات دفاعية إسرائيلية أخرى وأجهزة استخبارات أجنبية في مهام مشتركة، فإن استقلاليته التشغيلية تسمح له باتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة ضد التهديدات. وتعزز اتصالات الوحدة بمنظمات أخرى قدراتها وشبكات تبادل المعلومات الاستخباراتية. وعلاوة على ذلك، أبرم الموساد اتفاقيات مع أجهزة استخبارات أجنبية لمنع نشر كيدون في البلدان المذكورة. ومؤخرا، اتفق الموساد مع أجهزة الاستخبارات التركية على عدم نشر كيدون على الأراضي التركية. وفي المقابل، ستساعد أجهزة الاستخبارات التركية في زيادة المراقبة على أهداف الموساد في تركيا. إن مهام كيدون ذات أهمية استراتيجية، فهي تستهدف في كثير من الأحيان أفراداً متورطين في هجمات أو يشكلون تهديدات مباشرة لإسرائيل. إن عمليات الوحدة لها آثار عالمية وتتم بمستوى عال من الدقة والسرية لتقليل الأضرار الجانبية والتداعيات السياسية.
نفذت الوحدة عمليات ناجحة عديدة منذ إنشائها وربما أشهرهم اغتيال العلماء الإيرانيين مثل فخري زادة ومسعود علي محمدي ومصطفى أحمد روشن وغيرهم.
للوحدة سجل في العمليات الفاشلة أيضاً، فقد قامت الوحدة بقتل نادل مغربي يُدعى "أحمد بوشيكي" في بار بالنرويج لظنهم بإنه "علي حسن سلامة" مما مثل فشلاً هائلاً من قبل الوحدة المتخصصة الاسرائيلية.
ومن أكثر الإخفاقات شهرة هي محاولة اغتيال "خالد مشعل" رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الأردن فقد كان من المفترض أن يقوم إثنان من عملاء كيدون بتسميم مشعل أثناء سيره في أحد الشوارع في الأردن، ورغم نجاحهما في تسميمه، أدرك مساعد مشعل أن هناك خطأً ما واعتقد أن العميلين اللذين انتحلا صفة السائحين الكنديين هما المسؤولان عن العملية. وقد ألقت السلطات القبض على العميلين وعذبتهما ، وكشفت لهجتهما عن هويتهما الحقيقية كإسرائيليين، وليس كنديين.
وفي الوقت نفسه اختبأ أربعة عملاء آخرين في السفارة الإسرائيلية في عمان. ومع تدهور حالة مشعل، ازداد غضب الملك حسين وهدد بقطع العلاقات مع إسرائيل وإرسال وحدات النخبة إلى السفارة. وفي النهاية، استدعى الملك "إفرايم هاليفي"، السفير الإسرائيلي لدى الاتحاد الأوروبي، ورافقه طبيب من الموساد. وقام الطبيب بإعطاء مشعل مصلًا، مما أدى إلى شفائه. واضطرت إسرائيل أيضًا إلى إطلاق سراح الشيخ أحمد ياسين - الزعيم الروحي لحماس - لضمان عودة عملاء كيدون سالمين. وكان هذا بمثابة أحد أكبر إخفاقات كيدون التي كان من الممكن أن تغير المشهد الجيوسياسي بشكل كبير.
التعديل الأخير: