القدرات اللوجيستية المصرية وفائض الإنتاج الغازي الذي بدأ في التكون أعطى لمصر القدرة على دخول مجال تصدير الغاز بخطوات ثابتة، خاصة بعد الاحتياطيات والحقول الغازية الضخمة التي تم الكشف عنها خلال السنوات الأخيرة في المنطقة الاقتصادية المصرية، وكذا إعادة تفعيل منشآت الإسالة المصرية وعودتها للتشغيل والتصدير بشكل كامل منتصف عام 2021.
اكتفاء مصر غازيًا ودخولها مجال تصدير الغاز منذ سبتمبر 2018 شكّل نقطة نجاح أساسية للخطة المصرية فيما يتعلق بالطاقة، حيث ارتفعت مصر من المركز الـ19 عالميًا في إنتاج الغاز الطبيعي عام 2015، إلى المركز الـ13 عالميًا والثاني أفريقيًا عام 2021، وحققت زيادة في قيمة الصادرات من الغاز الطبيعي والمسال لتصل إلى 8 مليارات دولار خلال العام المالي 2021/2022.
نقطة النجاح هذه جعلت أوروبا لا ترى في نطاق البحر المتوسط سوى مصر من أجل سد حاجتها من الإمدادات الغازية، فحرصت في يونيو الماضي على توقيع اتفاقية ثلاثية مع إسرائيل ومصر لتوريد الغاز، سيتم بموجبها نقل الغاز من إسرائيل إلى الاتحاد الأوروبي بعد إسالته في مصر التي يراها الاتحاد الأوروبي بمثابة مورد موثوق للطاقة إلى الدول الأوروبية، التي تحتاج لاستيراد ما لا يقل عن 17 مليار متر مكعب من الغاز خلال الفترة المقبلة”. وبهذا ستدخل مصر بقوة إلى سوق تصدير الغاز إلى أوروبا، علما بأن كميات محدودة من الغاز المصري تصل بالفعل حاليًا إلى دول أوروبية مثل فرنسا وإيطاليا، بجانب تصدير مصر سابقًا الغاز لدول عدة منها الهند وبنجلاديش وكوريا الجنوبية وسنغافورة والصين وتركيا.
الدور يأتي على الحقوق المصرية غربي ساحلها الشمالي
انطلاقًا مما سبق، يمكن -بشكل واضح ودقيق- فهم دواعي وأسباب الخطوة المصرية الأخيرة فيما يتعلق بتحديد حدودها البحرية الغربية، وهي في القراءة الأولية أسباب اقتصادية وإجرائية بحتة، حيث تستهدف القاهرة حسم حدودها البحرية التي يمكن من خلالها أن تطرح المناطق المقابلة لها أمام شركات النفط العالمية للتنقيب عن النفط والغاز، وبالتالي الحفاظ على ثرواتها في هذه المناطق، خاصة أن الجانب الغربي من الساحل الشمالي المصري توجد به مناطق عديدة ذات احتياطيات غازية محتملة ضخمة، لا يمكن التنقيب فيها إلا بعد تحديد معلن ورسمي للحدود البحرية لجمهورية مصر العربية.
الملاحظ في هذا التحديد من حيث الشكل أن مادته الأولى نصت على أن تبدأ حدود البحر الإقليمي لجمهورية مصر العربية من نقطة الحدود البرية المصرية الليبية النقطة رقم (1) ولمسافة (12) ميلًا بحريًا وصولا إلى النقطة رقم (8)، ومن ثم ينطلق خط الحدود البحرية الغربية لجمهورية مصر العربية من النقطة رقم (8) في اتجاه الشمال موازيًا لخط الزوال (25) شرق، وصولًا إلى النقطة رقم (9)، وهو ما يتوافق مع خطوط الأساس الخاصة بترسيم الحدود البحرية الذي تم مع اليونان، ولهذا كان ترحيب اليونان بالقرار المصري على لسان وزير خارجيتها نيكوس دندياس، ما يثبت التنسيق المصري مع اليونان في هذا الصدد.
في نفس الوقت يتوافق التحديد البحري المصري مع القانون البحري الدولي، خاصة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، المعلنة عام 1982، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1993، ولهذا نصت المادة الثانية من القرار الجمهوري الخاص بتحديد الحدود البحرية على أن تعلن قوائم الإحداثيات وفقًا للقواعد المعمول بها، ويخطر بها الأمين العام للأمم المتحدة بشكل فوري.
التحديد البحري المصري جاء أيضًا مطابقًا لنقاط التماس والخطوط التي تضمنتها المذكرات المتبادلة بين وزير المستعمرات البريطاني الڤايكونت ملنر ووزير الخارجية الإيطالي ڤيتوريو شالويا، خلال أبريل 1920، والتي من خلالها تم الاتفاق على خط الحدود بين الأراضي الليبية والأراضي المصرية، وبالتالي كان التحديد المصري للحدود البحرية مراعيًا بشكل كامل للحقوق الليبية.
هنا لابد من التذكير بفكرة الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة؛ فالبلاد التي لديها سواحل على البحار أو المحيطات يكون لديها مياه إقليمية، وهي مساحة من مياه البحر تبلغ (12 ميل بحري) أمام سواحلها تعد وكأنها أرض تابعة للدولة ولها حق السيادة عليها، وحدود المياه الإقليمية تعد كأنها حدود الدولة وللدولة الحق في التعامل مع أي اختراق لهذه الحدود.
مع مرور الوقت ظهرت اكتشافات للبترول والغاز في المياه العميقة، بمعنى آخر في أماكن تتخطى المياه الإقليمية وتبعد مئات الكيلو مترات عن سواحل الدول بالإضافة إلى الثروة السمكية الضخمة الموجودة في هذه المساحات من البحار والمحيطات. سابقًا لم تكن هناك أي قوانين لضبط استغلال هذه الثروات وإثبات أحقية ملكيتها للدول، إلى أن جاء عام 1982 وتمت صياغة اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار.
هذه الاتفاقية وضعت ضوابط لتقسيم مساحات المياه في البحار والمحيطات التي تتخطى حدود المياه الإقليمية وسميت هذه المناطق بالمناطق الاقتصادية الخالصة، وتم تحديد هذه المناطق بـ 200 ميل طولي من سواحل الدول، وبالتالي أي دولة لها سواحل على البحار أو المحيطات تبدأ المنطقة الاقتصادية الخالصة لها من بعد نهاية المياه الإقليمية (بعد 12 ميل من الساحل) وتمتد بطول 188 ميل (المجموع الكلي 200 ميل من الساحل) ويكون للدولة في المناطق الخالصة حق استغلال الثروات وحق التنقيب والاستكشاف عن البترول والغاز.
في ضوء هذه البنود، يمكن أن نفهم أن مصر قامت بترسيم حدودها البحرية الغربية وليس منطقتها الاقتصادية في الجانب الغربي، وهو ما لا يحتاج -عمليًا- إذنًا أو تفاهمًا مع أي دولة أخرى؛ نظرًا إلى أن هذا النطاق هو نطاق ذو سيادة كاملة لمصر، على عكس المناطق الاقتصادية الخاصة التي تكون السيادة فيها متعلقة بشكل أساسي باستغلال الموارد فقط.
فيما يتعلق بالقراءة السياسية لخطوة ترسيم الحدود البحرية المصرية في نطاقها الغربي، يمكن النظر إلى هذه الخطوة في ضوء التوترات التي شابت حوض البحر المتوسط -خاصة في ما يتعلق بالطاقة-، بداية من التوترات المتعلقة بالتنقيب على الغاز في المنطقة الاقتصادية القبرصية بين اليونان وتركيا، أو الاتفاقية غير القانونية الخاصة بالحدود البحرية التي تم توقيعها عام 2019 بين حكومة السراج في ليبيا والحكومة التركية، والتي تبعها في الثالث من شهر أكتوبر الماضي توقيع اتفاقية -على شكل “مذكرة تفاهم”- في مجال الموارد الهيدروكربونية “النفط والغاز الطبيعي”، بين حكومة الدبيبة في ليبيا وتركيا، وهي جميعها اتفاقيات لا تتوافق مع قانون الأمم المتحدة للبحار، ولا تتمتع بأي توافق إقليمي حولها، ناهيك عن إعراب كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي عن مواقف غير متماشية مع توقيع هذه الاتفاقيات.
القاهرة انتظرت طويلًا استقرار الأوضاع في ليبيا لحسم ملف حدودها البحرية الغربية، وعملت بجهد مخلص لتحقيق هذا الاستقرار؛ لكن تسير الأمور في ليبيا بشكل أكبر نحو الانقسام، وتزايدت أعداد الاتفاقيات المنفردة التي توقعها بعض الأطراف الليبية -منتهية الولاية- مع أطراف خارجية في ما يتعلق بالتنقيب عن الغاز، وهو ما دفع مصر إلى العمل على حفظ حقوقها ورسم النطاق الذي لا يجب على أي طرف إقليمي مهما كانت مطامعه تعديه في ما يتعلق بالتنقيب عن النفط.
وهو وضع لا علاقة له بالاعتبارات السياسية بقدر ما له اعتبارات لها علاقة بالسيادة وبالثروة الوطنية المصرية. وهنا لابد من التذكير أن كافة الخطوات المصرية كانت دومًا تضع في حسبانها فتح نوافذ للتواصل اللاحق مع الدول التي لا تتفق مع هذه الخطوات، ومن أمثلة هذا ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان الذي كان جزئيًا وليس كليًا، حيث تفادى ترسيم الجزء المشترك بين مصر وتركيا واليونان، حتى يكون الباب مفتوح مستقبلًا للتوافق الثلاثي، وفي نفس الوقت لا يتم التعدي على حقوق دول أخرى.