جمال طه يكتب:
الإمارات وأزمة «سد النهضة».. الملف المسكوت عنه
إثيوبيا وجهت رسالة الى مصر يوم 26 يوليو، تفيد باستمرارها في ملء خزان سد النهضة خلال موسم الفيضان الحالي، للعام الثالث على التوالي.. سامح شكري وزير الخارجية سجل اعتراض مصر الرسمي على استمرار تصرف إثيوبيا بشكل أحادي دون اتفاق ينظم عمليات الملء والتشغيل، وذلك في خطاب وجهه إلى رئيس مجلس الأمن، نبه فيه الى مخالفة إثيوبيا الصريحة لاتفاق إعلان المبادئ لعام 2015، وانتهاكها لقواعد القانون الدولي، التي تلزم دول منابع الانهار، بعدم الإضرار بحقوق دول المصب، وحذر من أن الدولة المصرية لن تتهاون مع أي مساس بحقوقها أو أمنها المائي أو أي تهديد لمقدرات الشعب المصري الذي يمثل نهر النيل شريان الحياة الأوحد له.
شكري دعا مجلس الأمن للتدخل، وتنفيذ البيان الرئاسي الصادر عن المجلس في سبتمبر 2021، والذي يلزم الدول الثلاث بالتفاوض من أجل التوصل لاتفاق حول السد في أقرب فرصة ممكنة، وهو ما تعرقله إثيوبيا.. وشدد في الرسالة على ان مصر تحتفظ بحقها الشرعي المكفول في ميثاق الأمم المتحدة، باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان وحماية أمنها القومي، في مواجهة أية مخاطر قد تتسبب بها مستقبلاً الإجراءات الأحادية الإثيوبية.
***
والحقيقة ان مصر كانت تراهن على ان دولة الامارات وهي الدولة العربية الوحيدة التي تتمتع بعضوية مؤقتة في مجلس الأمن، ستتولى دعم ومتابعة الموقف المصري، المتمشي مع الحق والعدل، غير ان البعثة الدائمة للإمارات لدى الأمم المتحدة أصدرت بيانا صادما، تبنت فيه الموقف الإثيوبي بضرورة العودة للتفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، الذي عجز عن تحقيق أي تقدم في حل الأزمة عبر السنوات الماضية، نظرا لما تتمتع به إثيوبيا كدولة مضيفة، من ثقل وتأثير على الاتحاد يتجاوز تأثير مصر والسودان، والغريب ان الامارات دعت الدول الثلاث الى الالتزام بحسن نية في التفاوض!!، استنادا لمرجعية إعلان المبادئ لعام 2015، مساوية في ذلك بين مصر والسودان وأثيوبيا، معتبرة ان لديهم نفس الحرص على التوصل لاتفاق، متجاهلة كل مراحل التعنت الأثيوبي التي عرقلت المفاوضات وأعاقت مسار التسوية، كما أغفلت محاولات القاهرة والخرطوم تجاوز تلك العقبات المفتعلة على مدى أكثر من عقد من الزمان.
مساواة البيان الإماراتي بين إثيوبيا المتعنتة في الأزمة، ومصر والسودان المعتدى عليهما، أثار المصريين على مواقع التواصل، فهاجموا البيان، واعتبروه منحازا شكلا وموضوعا لأديس أبابا، وبالطبع رأى فيه الإثيوبيين بيانا منصفا!!، ونظرا لطبيعة العلاقات بالغة الحساسية بين مصر والامارات، فقد تجنب الاعلام المصري التعليق على البيان، تجنبا لانعكاسات ذلك على العلاقات السياسية.
ما خلفية ودوافع الموقف الاماراتي؟ ذلك ما سيتم القاء الضوء عليه فيما يلي:
***
الواقع ان موقف الامارات لم يكن مفاجأة لأي متابع، فالشركات الإماراتية اتجهت للاستثمار في قطاع الزراعة والثروة الحيوانية بأثيوبيا منذ عام 2008، عندما شهد العالم عجزا حادا في إنتاج الأرز البسمتي، ما دفع حكومتي الهند وباكستان إلى منع تصديره الى الخارج لتلبية احتياجات السوق المحلية.. خلال هذا العام خلت أسواق دول الخليج لأول مرة منذ عقود من الأرز البسمتي، الوجبة اليومية للمواطنين والمقيمين.. الأزمة دفعت الامارات لإعداد استراتيجية للأمن الغذائي، وتأسيس مركز للأمن الغذائي في أبو ظبي، ليقوم بدور فعّال في تأسيس العديد من الشركات الاستثمارية للعمل بالخارج.
اثيوبيا تجاوبت مع هذا الاتجاه، وبدأت منذ عام 2009 في تسويق الأراضي الزراعية، مدعومة بغزارة الموارد المائية، وتوافر العمالة الزراعية الرخيصة «80% من المواطن فلاحين».. الاستثمارات الإماراتية تجاوز حجمها بنهاية عام 2014 مليار دولار، غطت قطاعات الزراعة والصناعات الغذائية وتربية الماشية والفندقة والصناعات الدوائية.. الامارات أبدت اهتماما خاصا بثروة إثيوبيا الحيوانية التي تقدر بـ 44 مليون رأس من البقر، و32 مليون رأس من الخراف، و29 مليون من الماعز، ما يجعلها في المرتبة الأولى أفريقيا، والعاشرة عالميا، استثمار الامارات في تنمية هذه الثروة، حقق لها جانبا مهما من الأمن الغذائي، مما ساعدها عندما ضغطت الحرب الروسية الأوكرانية على أسواق العالم، وتعثرت سلاسل التوزيع.
إجمالي عدد المشاريع الاستثمارية للإمارات في إثيوبيا بلغ 92 مشروعاً، من بينها 21 مشروعا في قطاع الزراعة والصناعات الزراعية، 37 مشروعاً في مجال الصناعة، 20 مشروعاً في مجال العقارات وتأجير الآلات وتقديم الاستشارات، 7 مشاريع لحفر الآبار، و5 مشاريع تعدين وصحة وفندقة.. الشركات الإماراتية تتولى تنفيذ مشروعات لتوليد 500 ميجاوات من الطاقة الشمسية في عدة مواقع بإثيوبيا، وتتبنى تنفيذ مشروع لبناء خط أنابيب ضخم لنقل النفط، يمتد من ميناء عصب الإريتري على ساحل البحر الأحمر إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا.. ولما كانت الامارات تستورد نحو 80% من احتياجاتها الغذائية، فقد أصبحت السوق الإثيوبية تكتسب أهمية خاصة، فيما يتعلق بالمحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية وزراعة الزهور والنباتات.
الدولتان وقعتا أواخر عام 2016 اتفاقية تعزيز وحماية الاستثمار، وقدّمت الإمارات دعما لإثيوبيا يصل إلى 3 مليارات دولار ما بين مساعدات واستثمارات عام 2018.. الإمارات تستحوذ على 14% من إجمالي واردات إثيوبيا من الدول العربية، وهي الثالثة عربياً كأهم شريك تجاري لأديس أبابا.. وقد تعزز الدور السياسي للإمارات عندما نجحت وساطتها في التوصل لاتفاق سلام تاريخي بين إثيوبيا وجارتها اللدود إريتريا عام 2018.. الامارات وقعت مع اثيوبيا مذكرة تفاهم عسكرية لتعزيز التعاون في المجالات العسكرية والدفاعية عام 2019، وكان دعمها العسكري لحكومة آبى أحمد بالطائرات المسيرة والأسلحة واحدا من أهم عناصر ترجيح كفة الحكومة المركزية، وقمع حركة التمرد التي وقعت بإقليمي تيجراى وأوروميا.
***
التفاصيل السابقة كانت لازمة لتفهم دوافع أبو ظبي في قضية سد النهضة، بالإضافة الى تأثير السد المباشر على تنمية الاستثمارات الإماراتية التي تتركز في القطاعين الزراعي والحيواني، بخلاف تأثير علاقاتها الوثيقة بإسرائيل، والتي تجعلها أقرب لإثيوبيا من السودان ومصر!!، ولعل ذلك يفسر بعض الأمور بالغة الأهمية؛ أبرزها عرض الامارات الوساطة بين السودان وأثيوبيا لحل مشكلة النزاع على «الفشقة» السودانية، حيث اقترحت انسحاب الجيش السوداني من المنطقة تماما، على ان يعاد تقسيمها بنسبة 40% للسودان «صاحبة الأرض»، و20% للمزارعين الإثيوبيين، و40% للإمارات لتأسيس مشروع استثماري جديد يعتمد على مياه سد النهضة !!، وكأنها تحاكى القرد الذى التهم قطعة الجبن اثناء وزنه.
الامارات حاولت أيضا التوسط في قضية السد في ابريل 2021، من خلال مبادرة تعتمد على ضخ استثمارات في مشاريع توليد الكهرباء من الطاقة المائية وطاقة الرياح في محيط السد، بالإضافة إلى تخصيص أراضٍ في المنطقة للزراعات الاستراتيجية، بهدف تصديرها إلى الإمارات ومصر.. غير ان رؤيتها لسيناريو تفكيك أزمة سد النهضة، اعتمد على شراء مصر كميات من المياه تعوض النقص الذي يمكن ان يطرأ على حصتها التاريخية، وذلك مقابل «ثمن زهيد لفترة مؤقتة» قد تمتد من 10 الي 20 عاماً، تقوم الإمارات خلالها بتسديد قيمته نيابة عن مصر، على أن تسدد القاهرة ثمن تلك الكميات وفق أسعار جديدة يجري التفاوض عليها، عقب انتهاء تلك المدة.. ومن المؤسف ألا ترى الامارات حلا لتلك الإشكاليات سوى بتنازل السودان عن 60% من أراضي «الفشقة»، وتنازل مصر عن حقوقها المائية دون رجعة، إرضاء لشريكها الإثيوبي، وتحقيقا لأهداف اسرائيل.
***
موضوع السد الأثيوبي ليس إلا واحدا من التباينات العديدة بين أبو ظبي والقاهرة، ربما كان أبرزها الاندفاع الإماراتي سياسيا واقتصاديا وعسكريا نحو «تل أبيب»، وقيادة حملة غير مسبوقة لاجتذاب دول المنطقة لقطار التطبيع، مما سبب إضرارا بالموقف العربي في القضية الفلسطينية، وأربك حسابات الأطراف الإقليمية الرئيسية خاصة مصر والسعودية الذين يسعون لصنع السلام ولكن ليس على حساب الحق العربي، ويعنى ذلك ان موقف الامارات أثر بشكل مباشر على مصالح الامن القومي العربي.
طريقة تعامل الامارات أيضا مع الملف الليبي يستحق الاشارة، فقد ورطت الجيش الوطني الليبي في معركة طرابلس، التي كانت سببا في استعانة السراج بالاحتلال التركي تجنبا لسقوط العاصمة.. كما لا يمكن ان نغفل توقيع الامارات اتفاقا لشحن النفط الخام ومنتجاته إلى الأسواق الأوروبية في أكتوبر 2020، عبر خط أنابيب نفط في إسرائيل «إيلات أشكيلون»، يربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، متجاهلة قناة السويس وخط أنابيب سوميد المصري.
والحقيقة ان موقف الامارات رغم ما يسببه من مرارة، فإن المؤكد ان أزمة سد الأحباش هي أزمة مصرية، وحلها لن يكون إلاّ بإرادة سياسية مصرية، دون اعتماد على مساندات قد تأتي مرة من قوى إقليمية أو دولية؛ وقد تزروها المصالح مرة أخرى، فقد فشلت المفاوضات المباشرة بين الدول الثلاث «مصر، السودان، وإثيوبيا» لعقد من الزمان، وفشلت الوساطة الأمريكية ووساطة البنك الدولي والاتحاد الأفريقي، وذلك بسبب إنكار الجانب الإثيوبي للحقوق، وتعنته في بدء الملء الثالث دون النظر للاتفاقيات الدولية ومنها اتفاق إعلان المبادئ لعام 2015.
إذن فما هو الحل ؟! وهل لم نعد نملك في مواجهة أزمة السد أية بدائل للتعامل ؟! وهل أصبح ما تفعله إثيوبيا هو الأمر الواقع الذى ينبغي ان نمتثل له ؟!.
الإجابة بالنفي طبعا والتفاصيل على صفحتي في مقال الجمعة المقبلة انشاء الله.https://www.facebook.com/100063634184261/posts/pfbid0uizHgBTCr7Y2wdckUgEeDSvAQdRpJEFWMAskDXhD5zZPJ2txbNsBSLokjsFDK43Dl/