تؤكد البرقيات السرية أن
السعودية لم تكن تعلم عن الهجوم شيئا، بعكس الروايات التي تحاول إبراز دورها زاعمة أن استخدام النفط كان قد رُتّب له مسبقا لإنجاح المعركة. الواقع أن الملك
فيصل بدا مستاءً من الهجوم لأنه سيضعه في موقف حرج مع الولايات المتحدة ولأنه سيبدو متخلفا عن الركب ولأن الاتحاد السوفيتي قد يجدها فرصة للنيل منه.
في 8 أكتوبر التقى
محمود ملحس مساعد الأمير فهد بالسفير الأمريكي وأكد له أنه منزعج مما أقدمت عليه سوريا ومصر وأنه يعده عبثيا لكن السعودية ستضطر لمساعدتهما مراعاة للضغوط الداخلية.
ظهر سريعا التفوق العسكري العربي لدرجة أذهلت الدبلوماسيين الأمريكيين الذين علموا أن أمريكا ستزود إسرائيل بالسلاح فطلبوا من واشنطن أن يكون تدخلها هادئا.
كان المسؤولون السعوديون على علم بتسليح أمريكا لإسرائيل لكنها برّرت لهم ذلك بأن الاتحاد السوفيتي يزود العرب بالسلاح وأن ذلك يجعل الكفتين غير متساويتين.
عتّمت الصحافة السعودية على أي ذكر لتسليح أمريكا لإسرائيل بل ذهبت أبعد من ذلك فحذفت أجزاءً من خطبة للسادات يشير فيها إلى معونة أمريكا لإسرائيل؛
وأخبرت وزارة الإعلام السفارة الأمريكية أنها أقدمت على ذلك تفاديا لتهييج المشاعر ضد أمريكا.
في هذه الأثناء التقى السفير البريطاني بعدد من المسؤولين السعوديين وجميعهم بلا استثناء كان قلقا من أن السعودية قد تضطر للمشاركة الفعلية لأنها إن لم تفعل فسيحملها العرب المسؤولية حال الخسارة وسيلومونها حال الفوز وانتقد بعضهم بشدة السادات وبدأه للمعركة.
في 9 أكتوبر كان وزير الدولة للشؤون الخارجية
عمر السقاف في الأمم المتحدة وهدد بقطع النفط، لكن يبدو أنه كان تصريحا ارتجاليا إذ إن السفارة البريطانية سألت سعود الفيصل عن ذلك فأخبرهم أنه لم يكن على علم مسبق.
صرّح الأمير سلطان أيضا أن السعودية ستقلل من إمدادات النفط لكن الخارجية السعودية أخبرت السفارة أن حديث الأمير سلطان عام ولا علاقة له بالظروف الراهنة. في ذات الأثناء أخبر مسؤولون سعوديون السفارة الأمريكية أنهم يستبعدون أن تخوض السعودية الحرب،
لكنها لا تستطيع أن تمكث هكذا ولذا فإن اضطرت للمشاركة فستكون مشاركتها رمزية.
في 10 أكتوبر أخبرت السعودية الأردن أنها سترسل كتيبة إلى سوريا فخاف رئيس الوزراء الأردني زيد الرفاعي من ذلك فاتصل بالسفارة الأمريكية في عمّان ليطلب منها أن تتواصل مع الملك فيصل لأن الأردن لن تستطيع أن ترفض.
في هذه الأثناء كانت الصحافة السعودية تهوّل من دور السعودية وتشيد بمشاركتها في الجبهة السورية ولتتأكد أمريكا أن السعودية لن تُقدِم على شيء ولتُحكِم قبضتها راسلت وزارة الخارجية الأمريكية شركات الدفاع الأمريكية طالبة منها ألا تشترك في أي نشاط خارج الحدود السعودية.
في 11 أكتوبر التقى الأمير نواف بن عبد العزيز السفير الأمريكي ليؤكد له حرص السعودية على علاقتها بأمريكا وعلى ضرورة وقف إطلاق النار وأكد له أن العرب لا يريدون تدمير إسرائيل بل تنفيذ قرار مجلس الأمن 242 القاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها عام 1967.
في 10 أكتوبر دعت الكويت الدول المُصدّرة للنفط لاجتماع عاجل لبحث استخدام سلاح النفط وجاءت الدعوة بعد تنامي ضغط البرلمان الكويتي والاحتجاجات الشعبية.
عدت السعودية المبادرة محرجة لأنها لا تريد المغامرة.
في ذات الوقت أكد ولي العهد الكويتي جابر الأحمد الصباح للسفير البريطاني أن الكويت “لا تريد أن تضر أصدقاءها فهي تحتاجهم”. في 17 أكتوبر عُقد الاجتماع وسرعان ما وشى وزير النفط السعودي أحمد زكي يماني بمجرياته التفصيلية للسفارة الأمريكية:
كانت العراق وليبيا تقفان في الجانب “الرديكالي” فطالبا بقطع النفط تماما وقطع العلاقات مع أمريكا وسحب أرصدة الدولار لينهار، لكن السعودية واجهت بشدة كل تلك المقترحات، فدعت العراق الدول للانسحاب من الاجتماع لكن أحدًا لم يلحق بها. انتهى الاجتماع بعد التسوية إلى خفض نسبة الإنتاج 5% على الأقل شهريا وبأثر رجعي حتى حل القضية.
في 19 أكتوبر طلب الرئيس الأمريكي ريتشارد نكسون من الكونغرس اعتماد معونة عسكرية عاجلة لدعم إسرائيل بمبلغ 2.2 مليار دولار.
كان التطور صارخا ولا يمكن كتمانه كما كُتِمت المعونات السابقة، فاضطرت السعودية لإعلان قطع النفط عن أمريكا بعد أن قامت ليبيا بذلك.
حاولت العراق استثمار الفرصة لرفع سقف الطموحات فطالبت بتأميم شركات النفط وسحب جميع الأرصدة العربية من الدولار وقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع أمريكا ثم هاجم إعلام العراق السعودية واتهمها بالخيانة والوقوف على المصالح الأمريكية. وصرّح وزير النفط السوري أنه كان ينتظر إجراءات أقوى على الجبهة النفطية.
قُسّمت الدول المستهلكة للنفط لثلاثة أقسام: دول مُقاطَعة وهي الدول التي تسلح إسرائيل ولا تنال من نفط السعودية شيئا (أمريكا وهولندا والبرتغال)، ودول مُحبّذة وهي الدول التي أدانت إسرائيل وتنال حصتها كاملة كما كانت قبل الحرب دون نقصان (بريطانيا وفرنسا وإسبانيا)، ودول غير مُحبّذة وهي الدول التي لم تنحز للعرب وتتأثر بالنقصان الشهري المتصاعد لإمدادات النفط (بقية دول العالم).
لم يكن قرار قطع النفط مؤثرا على بقية العلاقات العسكرية والتجارية والدبلوماسية والشخصية بين السعودية وأمريكا.
على الصعيد العسكري التقى نائب وزير الدفاع الأمير تركي بن عبد العزيز برئيس البعثة الأمريكية للتدريب العسكري في 21 أكتوبر (بعد الحظر بيومين)
ليؤكد له أن السعودية اضطرت لاتخاذ هذه “القرارات السياسية” وأنها يجب ألا تؤثر في التعاون العسكري،
وبعد أسبوع زار نائب رئيس شركة ريثيون الأمريكية للسلاح وزير الدفاع الأمير سلطان ليطمئن على استمرار صفقة شراء معدات دفاعية،
ثم زار وفد سعودي ولاية جورجيا الأمريكية ليستلم طائرات حربية من شركة لوكهيد،
وتواصل رئيس الحرس الوطني الأمير عبد الله بن عبد العزيز مع السفارة الأمريكية طالبا صفقات للحرس الوطني.
أما على الصعيد الاقتصادي فأكّد رئيس مؤسسة النقد السعودي أنور علي للسفارة الأمريكية أن السعودية لا تنوي سحب أرصدتها من الدولار،
وراسلت السفارة الأمريكية وزارة الخارجية الأمريكية لتبلغها أن بإمكان رجال الأعمال الأمريكيين القدوم وإتمام صفقاتهم كما كانوا
وأجريت مشاورات عن استمثار شركة جنرال موتر في السعودية.
أما على الصعيد الدبلوماسي فاستمرت الاتصالات الدبلوماسية بين المسؤولين السعوديين والسفارة الأمريكية بل
أُبلِغت أن السعودية لن تقطع علاقتها بأمريكا حتى لو قطعتها كل الدول العربية. وأكد أحمد زكي يماني أن علاقة السعودية بأمريكا ستكون أقوى مما كانت بعد انتهاء الأزمة.
وأكد الملك فيصل لوزير الخارجية الأمريكي هنري كسنجر أن المقاطعة لن تنتهي فحسب بل سيزداد الإنتاج النفطي عما كان عليه قبل الحرب.
أما وزير الدولة للشؤون الخارجية
عمر السقاف فزار عددا من العواصم العربية (منها القاهرة ودمشق) ثم عاد ليبدي للسفارة الأمريكية استياءه من التوجه العربي “العدواني” لأنه وجد أنهم يعتقدون أن بإمكانهم الإثخان في إسرائيل ولم يكونوا حريصيين على إيقاف إطلاق النار وطلب من أمريكا أن تصدر تصريحا يعزّز من موقف “المعتدلين” (السعودية والمغرب وتونس).
وفوق ذلك كله كانت العلاقات الشخصية بين المسؤولين السعوديين والأمريكيين متينة إذ كان السعوديون يسمون الأمريكيين “الأصدقاء”، وفي عيد الفطر لعام 1973 (في ظل توتر حاد على الجبهة المصرية الإسرائيلية)
دعا وزير النفط أحمد زكي يماني السفير الأمريكي لقضاء إجازة العيد معه.
كانت السعودية في وضع ممتاز: قدّمت أقل ما يمكن أن تقدمه، وحافظت على علاقات متينة بأمريكا، وحقق الملك فيصل منزلة نضالية لم يسبق له أن نالها
(ولا تزال تذكر له إلى اليوم). وعلاوة على ذلك كله زاد دخل السعودية نتيجة لزيادة لارتفاع الطلب على النفط وانخفاض العرض؛ حيث قدرت السفارة الأمريكية الزيادة بأنها من 4 إلى 8 مليارات دولار سنويًا.
في 26 نوفمبر 1973 عُقِدت قمة عربية في الجزائر وحضرها الملك فيصل وقررت القمة أن تترك المجال لكل دولة لتخفض من إنتاجها النفطي كما شاءت. أبدى السفير السعودي في بريطانيا عبدالرحمن الحليسي سعادته للسفير الأمريكي لأن هذا القرار سيخفف الضغط على السعودية.
في 22 ديسمبر عقدت أوبك اجتماعًا في طهران ومثّل السعودية وزير النفط أحمد زكي يماني
وأصر فيه الشاه على رفع أسعار النفط من 3.05 دولار إلى 7 دولار. رفضت السعودية الارتفاع مطلقا لكن الشاه أكد أنه تشاور مع أمريكا وبريطانيا وكلاهما وافقا على الرفع. اتصل يماني بالسعودية فأمره الأمير فهد ألا يواجه الشاه وأن يقبل. عاد يماني من الاجتماع ليشي مجددا بمجرياته للسفير الأمريكي ويخبره أنه حاول جاهدا أن يقنعهم بتخفيض الأسعار، فأخبره السفير أن الولايات المتحدة -بعكس دعوى الشاه- لم توافق على الرفع فأجابه يماني أن السعودية ستدعو لاجتماع آخر عاجل لأعضاء أوبك للتراجع عن القرار.
وهذا ما جرى، ففي 8 يناير 1974 اجتمعت دول أوبك في جنيف وهددت السعودية بأن تخفض وحدها الأسعار.
في أواخر ديسمبر 1973 تلقى الملك فيصل رسالة من معمر القذافي يحرض فيها على السادات الذي بدأ مفاوضات السلام مع إسرائيل ويتهمه فيها بالخيانة، فسارع عمر السقاف في اليوم التالي إلى السفارة الأمريكية ليعرضها عليهم ويعرض عليهم مسودة رد الملك التي خطّأ فيها القذافي وحدثه عن ضرورة القبول بالحلول “الواقعية”.
في 18 يناير 1974 وقّعت مصر وإسرائيل اتفاقا تنسحب بموجبه إسرائيل عن غرب قناة السويس (التي احتلتها بعد بدء الحرب) وتحافظ على سيطرتها على معظم سيناء، وبقيت الجبهة السورية دون تسوية. في أواخر يناير تصدّرت السعودية مساعي إلغاء المقاطعة عن أمريكا وسعت لإقناع بقية الدول ثم التقى عمر السقاف بالسفير الأمريكي ليبلغه بالردود التي تلقاها (لم يمانع إلا ليبيا)، واعترف السقاف للسفير أنه رغم سعادته بانتهاء الحرب إلا أن ما تم لا يمكن أن يعد إنجازا لهدف المقاطعة.
في أوائل فبراير التقى السفير الأمريكي بنواف بن عبد العزيز (مستشار الملك فيصل) ومساعد بن عبد الرحمن (وزير الاقتصاد) وكلاهما أبلغاه أنه لو كان الأمر بيد الملك فيصل لألغى المقاطعة فورا لكنه يخشى من أن يناله نقد بقية الدول العربية وأن يُتّهم بشق الصف العربي ولذا فلن يتخذ قرارا قبل قمّة طرابلس التي عقدت أخيرا في 13 مارس.
لم ينتج عن تلك القمة اتفاق لأن ليبيا أصرت على تأجيل إلغاء المقاطعة لحين تسوية الجبهة السورية، فأُجل إعلان الرفع إلى قمة أوبك في فينا لأن الحضور رأوا أنه من غير الملائم أن يتم ذلك من الأراضي الليبية رغم معارضتها.
في
18 مارس أعلن أحمد زكي يماني في مؤتمر صحفي لأوبك أن السعودية ومصر والكويت وقطر والإمارات والبحرين قرروا إلغاء المقاطعة عن أمريكا مع امتناع ليبيا وسوريا عن ذلك.
تعهد يماني أن تعوّض السعودية أمريكا عن النقص الذي سيلحقها بسبب مقاطعة ليبيا وأنها ستزود إنتاجها 300،000 برميل،
بل ذهب أبعد من ذلك وأخبر السفارة سرًا أن السعودية ستزيد الإنتاج إذا ما احتاجت أمريكا ذلك.
في الأيام التالية شنت الصحافة اليسارية هجوما على موقف السعودية وعدَّته بعضها خيانة للقضية وتعاميا عن أن أمريكا لم تقدم شيئا بل أثبتت الحرب تماهيها مع الموقف الإسرائيلي.
أحست السفارة الأمريكية بمقدار الهجوم
فأرسلت إلى واشنطن طالبة أن يشكر الرئيس الأمريكي الملك فيصل وأن يهنئه وأشادت ب”حكمة” السعودية ودورها “القيادي”.
وهكذا انتهت 150 يومًا من قطع النفط عن الولايات المتحدة: لم يكن الدور السعودي بطوليا فدائيا ولا رياديا، بل كان دور الحريص على تخفيف المقاطعة وتأجيلها قدر المستطاع ثم دور الواشي بالاجتماعات والمراسلات ثم دور الساعي لرفع المقاطعة سريعا بأقل المكاسب. كانت معركة إعلامية ومساومة سياسية ما تزال أساطيرها سائدة حتى اليوم.