«أحلام اليقظة» تكلف أوروبا غاليا في ملف الطاقة .. ارتفاع الفواتير 8 أضعاف
تواجه أوروبا أزمة طاقة متزايدة، يعانيها المستهلكون والشركات، وفيما يبدو أنها ستدفع ثمن الاندفاع وراء أحلام اليقظة في التعامل مع ملف الطاقة، بحسب التطورات الأخيرة في القطاع.
ففي 31 آب (أغسطس) الماضي أوقفت روسيا ضخ الغاز الطبيعي إلى ألمانيا عبر خط الأنابيب الرئيس نورد ستريم1، في البداية لمدة ثلاثة أيام، بدعوى إجراء صيانة دورية، ثم إلى أجل غير مسمى بسبب "صعوبات فنية".
وأعلنت شركة الغاز الطبيعي الروسية العملاقة غازبروم خفض إمداداتها إلى شركة الطاقة الفرنسية إنجي على الفور. هذه الإجراءات وفرت حالة من الغموض الشديد، وتهدد بمزيد من الارتفاع في أسعار الطاقة في أوروبا مع اقتراب فصل الشتاء، حيث يصل الطلب على الطاقة إلى ذروته.
وفي تحليل نشره موقع معهد جيتستون الأمريكي للأبحاث قال بيت هوكسترا السفير الأمريكي لدى هولندا خلال حكم الرئيس السابق دونالد ترمب، "إنه زار هولندا خلال الشهر الماضي وناقش مشكلة الارتفاع الصاروخي في أسعار الطاقة، حيث أصبح من المعتاد وصول قيمة فاتورة الكهرباء للمنزل في هولندا إلى ما بين 400 و600 يورو شهريا".
وقالت إحدى الشركات الهولندية "إنها تدفع حاليا سعرا للغاز الطبيعي يعادل أربعة أمثال السعر منذ عام"، وأضافت أنه "بسبب ارتفاع أسعار الطاقة تعتزم خفض إنتاجها 50 في المائة خلال الشتاء المقبل". وتعاني أغلب دول الاتحاد الأوروبي وصول أسعار الطاقة إلى ثمانية أمثال مستواها في العام الماضي.
وتشهد كل من ألمانيا وهولندا ارتفاعات صاروخية لأسعار الطاقة. ففي ألمانيا وصل السعر إلى 1050 يورو لكل ميجاواط/ساعة قبل التراجع إلى 610 يوروهات لكل ميجاواط/ساعة خلال الشهر الماضي. وكان سعر الميجاواط/ساعة خلال العام الماضي نحو 85 يورو.
هذا التضخم الهائل في تكاليف الطاقة يؤدي إلى إجراءات متوقعة ونتائج غير متوقعة. ورصدت هولندا تراجعا في الطلب وهذا يعني أنه عندما يرتفع سعر منتج، يقل الطلب عليه، وفقا لـ"الألمانية".
وما نراه في أوروبا هو تراجع في الطلب على الطاقة بسبب الزيادة الهائلة في الأسعار وخلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي تراجع استهلاك الهولنديين من الغاز الطبيعي 25 في المائة مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وذلك نتيجة ارتفاع الأسعار، واعتدال درجات الحرارة مقارنة بالتوقعات.
وبالفعل طالب الاتحاد الأوروبي الدول الأعضاء بخفض استهلاك الطاقة خلال الشتاء المقبل 15 في المائة، ودعت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية إلى الاستعداد "لموقف أسوأ" بالنسبة لإمدادات الغاز الطبيعي القادمة من روسيا.
في الوقت نفسه تقدر شركة إيكوينور النرويجية للطاقة احتياجات شركات الطاقة الأوروبية بنحو 1.5 تريليون يورو لتغطية النفقات الإضافية اللازمة لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، ويعني هذا أن أوروبا ستواجه شتاء قاسيا ومكلفا.
وكما هو متوقع، تحرك عديد من دول الاتحاد الأوروبي بشكل منفرد لمواجهة أزمة أسعار الطاقة، سواء بوضع سقف للأسعار أو بتقديم منح نقدية مباشرة للأسر والشركات المتضررة. لكن على مستوى الاتحاد الأوروبي عموما يبدو أنه أصبح هناك اتفاق على ضرورة إعادة هيكلة سوق الطاقة الأوروبية بالكامل، وبسرعة.
ويأمل قادة الاتحاد إنجاز المهمة أوائل العام المقبل، لكن أيا من تلك الإجراءات لا تضع أساسا لحل عملي طويل الأجل لأزمة الطاقة في أوروبا، بحسب هوكسترا الذي يعمل حاليا رئيسا لمركز مجلس المستشارين للسياسة الأمنية وباحثا كبيرا في معهد جيتستون.
والحقيقة أن مشكلة الطاقة في أوروبا لم تتكون في يوم وليلة، وبالتالي فحلها لن يكون في يوم وليلة، ورغم أن السياسيين الأوروبيين يلقون بكامل مسؤوليتها على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وحربه في أوكرانيا، فإن جذور المشكلة أعمق من ذلك.
فمنذ أعوام تعهد الاتحاد الأوروبي بالتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة. لكن ألمانيا والنمسا وإيطاليا وهولندا تعود بسرعة إلى تشغيل محطات الكهرباء التي تعمل بالفحم للحد من استخدام الغاز الطبيعي. ويقول الخبراء في ألمانيا "إن الحكومة الائتلافية تحاول شراء الوقت باستخدام الفحم، وبالتالي فإنها لن تستطيع أن تقدم حلولا طويلة المدى أكثر استدامة".
وفي كانون الثاني (يناير) الماضي أغلقت ألمانيا نصف محطاتها النووية الست رغم ارتفاع أسعار الطاقة. في الوقت نفسه لم تتضمن أهداف ألمانيا النبيلة بشأن التغير المناخي خططا لكيفية توفير بديل للطاقة النظيفة والآمنة والمعتمد عليها التي تنتجها المحطات النووية.
وبدلا من تحقيقها أهدافها المثالية بشأن المناخ قررت ألمانيا الاعتماد بصورة متزايدة على إمدادات الغاز الطبيعي الروسية، التي أصبحت تشكل أكثر من 40 في المائة، من إجمالي إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا.
وردا على تقليص روسيا إمدادات الغاز الطبيعي إلى أوروبا بشدة ردا على العقوبات الغربية التي تم فرضها على موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا، ستتحرك الحكومات الأوروبية بشكل قوي خلال الشهور المقبلة للتعامل مع الأزمة.
وأعلنت ألمانيا أخيرا استمرار تشغيل محطتين نوويتين كان يفترض غلقهما أوائل العام المقبل، وبعد ذلك سيتوجه الساسة الأوروبيون إلى الناخبين ليستعرضوا ما يعدونه عملا مذهلا للتعامل مع الأزمة، دون أن يذكروا أنهم كانوا المسوؤلين عنها في المقام الأول.
ويرى هوكسترا الدبلوماسي الأمريكي وعضو الكونجرس السابق أنه كان في مقدور أوروبا تجنب أزمة الطاقة الحالية لو أن حكوماتها كانت قد وضعت خططا عقلانية للتعامل مع ملف الطاقة بدلا من الخطط التي تستند إلى أحلام اليقظة مهما كان إغراء تلك الأحلام.
فالخطط الأوروبية استندت إلى الأمل في قبول المستهلكين بدفع أسعار أعلى للحصول على الكهرباء مقابل الحفاظ على البيئة، وإلى أن بوتين وروسيا يمكن الاعتماد عليهما كمصدر للطاقة، وأن تكنولوجيا بطاريات تخزين الكهرباء من الطاقة الشمسية وطاقة الرياح ستتزدهر بسرعة لكي تضمن تغطية الأوقات التي لا تكون فيها الرياح قوية ولا الشمس مشرقة بما يكفي لتوليد الكهرباء